wwww.risalaty.net


السماحة في الإسلام ضرورة وحقيقة


بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان

تشهدُ المرحلةُ التي يمرُّ بها عالَمُناالإسلامي اليومَ إلصاقَ شُبهةٍ خطيرة بالإسلام والمسلمين، تتمثَّلُ في وصف هذا الدِّين العظيمِ وأتباعِهِ بالتَّعصُّب والعُنْفِ والشِّدَّة والإرهاب ، والإسلام بَراءٌ مِن هذه الاتِّهاماتِ الخطيرة ؛ فهو دينُ الرَّحمة والعَدالَة والمحبَّة والتَّسامُح ، يتفاضلُ الخَلْقُ فيه بالتَّقوى والعمل الصَّالح ، فلا فضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ ، ولا لأعجميٍّ على عربيٍّ ، ولا لأسودَ على أحمر ، ولا لأحمرَ على أسود إلاَّ بالتَّقوى : « يا أيُّها النَّاسُ إنَّا خَلَقناكُم مِن ذكرٍ وأُنثى وجَعَلناكُم شُعُوباً وقبائلَ لِتَعارَفوا إنَّ أكرمَكُم عندَ الله أتقاكُم إنَّ اللهَ عليمٌ خبير » [الحُجُرات/13].

وإنَّ أبرزَ ما يُميِّزُ هذه الشَّريعةَ المُحمَّديَّةَ هو ( السَّماحةُ )، فقد روى البُخاريُّ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أَحبُّ الدِّينِ إلى الله الحَنيفيَّةُ السَّمْحةُ» أي: التي ليس فيها ضِيْقٌ ولا شِدّةٌ ؛ إذ السَّماحَةُ وسطٌ بين الشِّدَّة والتَّساهُل ...

مفهوم السماحة:

فأصلُ مفهوم السَّماحة يَرجِعُ إلى التَّيسير والاعتدال ، وهما من أهم أوصاف الإسلام ، قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « إنَّ الدِّيْنَ يُسْرٌ ، ولن يُشادَّ الدِّيْنَ أحدٌ إلاَّ غلَبَهُ » .

وصَحَّ عنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه" ما خُيِّرَ بين أمرَينِ إلاَّ اختارَ أيسَرَهُما ما لم يكن إِثْماً" .

فالتَّكاليفُ الإسلاميَّةُ ليس فيها شيءٌ من الحَرَج والشِّدَّة والمَشقَّة ، كما أنَّه ليس في أحكام القرآن شيءٌ مِمَّا يَعْسُرُ على النَّاس وتَضِيْقُ به صُدُورُهُم . وهذا ما تَدُلُّ عليه آياتُ الصِّيام ، قال تعالى : « ..فمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فلْيَصُمْهُ ومَن كان مَريضاً أو على سَفَرٍ فعِدَّةٌ مِن أيَّامٍ أُخَرَ ، يُريدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُريدُ بِكُمُ العُسْرَ ... » .

السماحة في الأحكام التشريعية:

السَّماحَةُ : أكْمَلُ وَصفٍ لاطمِئنانِ النَّفس ، وأعونُ لها على قَبُول الهَدْيِ والإرشاد.

وقد حافظ الإسلامُ على وصف السَّماحة لأحكامِهِ ، وأقامها على التَّيسير ورَفْعِ الحَرَج ودَفْعِ الضَّرَر، مُنْتهِجاً فيها أُصولَ التدرُّج في التَّشريع ، مُراعاةً للطَّبيعة البشريَّة ، مُشرِّعاً مِن التَّكاليف ما تَحتمِلُهُ طاقةُ المُكلَّف ، وذلك مِن سماحة الدِّين واعتِدالِهِ ووَسَطيَّتِهِ : « لا يُكلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَها لها ما كَسَبَتْ وعليها مَا اكتَسَبَتْ » [البقرة/286].

شمولية مفهوم السماحة :

إنَّ المُتأمِّلَ في الدّلالاتِ والمعاني المُستَنبَطَةِ من لفظ ( السَّماحة ) يجدُها تتَّسِعُ لِتَشمَلَ كُلَّ مجالاتِ الحياةِ الرُّوحيَّةِ والماديَّةِ، وإنَّ المُستَقرِئَ للنُّصوص القُرْآنيَّة والنَّبويَّة الشَّريفةِ ، تستهويه رُوحُ السَّماحةِ والتَّيسيرِ ، ويستوقفه منهج الوسطيَّة والاعتدال ، الذي يطبعُ مُجملَ التشريعاتِ الإسلامية .

سماحة الخطاب الإسلامي:

وإنَّ مِن أبرزِ مُقوِّماتِ السَّماحةِ في الإسلام : سماحةُ الخِطابِ الدِّيْنيِّ ، القائمِ على التَّحبُّبِ والتَّبشيرِ بالخير، وعلى التدرُّجِ في التَّشريعِ ومُسايَرَةِ الفِطْرة ، وعلى العَفْوِ والمُجاوزةِ والمَرْحَمة . قال تعالى : « وبَشِّرِ المُؤمنينَ بأنَّ لَهُم مِن الله فَضْلاً كبيراً » [الأحزاب/47] ، وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لمُعاذِ بنِ جَبَلٍ وأبي موسى الأشعريِّ رضي اللهُ عنهما لَمَّا أرسلَهُما إلى اليمن: « يَسِّرا ولا تُعسِّرا ، وبَشِّرا ولا تُنفِّرا » . فالتَّبشيرُ والتَّحبُّبُ هُما رُوْحُ دعوةِ الإسلام ، تألُّفاً لنُفُوس مُعتنقيه ، وترويضاً لعُقُولِهم، واستئناساً لأرواحِهِم .

السماحة في التكاليف الشرعية:

وأمَّا التدرُّجُ في التشريع ومُسايَرَةُ الفِطْرة فهما من سماحة التَّكليف ومُرُونتِهِ، قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : « إنَ هذا الدِّينَ مَتينٌ فأوْغِلوا فيه بِرِفْقٍ » . ويُثبِتُ تاريخُ التَّشريع الإسلاميِّ مُلاءمتَهُ لأوضاع المؤمنين حَسْبَ الأزْمنةِ والأمصار ، ومُسايرَتَهُ للأعراف السَّليمةِ، واحترامَهُ تطوُّرَ حياةِ المُجتمعاتِ الإنسانيَّة ،ِوذلك بفتحه باب الاجتهاد، استجابةً للحاجاتِ الضَّروريَّة، الطارئة و المُستجِدَّة ، وما تَعدُّدُ المذاهبِ التَّشريعيَّةِ، وثَرَاءُ الثَّرْوةِ الفِقهيَّةِ إلاَّ مِن آثارِ هذه المُرُونةِ في التَّشريع.

السماحة في العبادة:

ولا تقتصرُ سماحةُ الإسلام على الخِطابِ القوليِّ دون العمليِّ، فالعِبادةُ في الإسلام تمتازُ باليُسْرِ والسُّهولةِ ، وسُرعانَ ما يحصُلُ بها للمُتعبِّد الطُّمأنينةُ والسّكينة، قال تعالى: « الَّذينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ الله أَلاَ بذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ » [الرَّعد/28].

والعباداتُ إنْ وقعت في الشَّرع موقِعَ التَّكليفِ فهي مَشروطةٌ بالقُدْرة على أدائها ، مع مُراعاةِ الحالاتِ المُختلفةِ عند القصور أو العَجْزِ ، وهذا مِن تَجلِّياتِ السَّماحةِ ، التي لا يُجارَى فيها الإسلامُ ولا يُبارَى، ولعلَّ مِن أشهر القواعدِ الفقهيَّة التي بُنيتْ عليها الأحكامُ التَّشريعيَّةُ : [ المَشقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسيرَ ] ، و[ الضَّرُوراتُ تُبِيْحُ المَحْظُوراتِ ] ، و[ لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ ] .

السماحة في الاجتهاد :

وقد حَرَصَ الفُقهاءُ على تَمثُّلِ رُوْحِ السَّماحةِ عند النَّظر والاستنباط ، حِرْصاً على عدمِ الخُروجِ بأحكامِ الدِّينِ عَمَّا وُضِعتْ له ، مِن اعتبار مصالحِ العِبادِ في كلِّ الأحوال ، عملاً بقاعدة التَّيسير الَّتي تَمَثَّلَها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أقواله وأفعالِهِ وتقريراتِهِ ، لذلك كان مِن وَصاياهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لدُعاةِ أُمَّتِهِ وعُلمائها : «يَسِّروا ولا تُعسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنفِّروا» .

السماحة في المعاملات :

وإذا كان هذا الحالُ في العباداتِ فالنَّاسُ في المُعاملاتِ أحوجُ إلى خُلُق السَّماحةِ والعَفْوِ، لِما في التَّعامُلِ المادِّيِّ مِن مَيْلٍ إلى الحِرْصِ والاستِئثارِ ، وتغليبِ المَنفَعةِ الذَّاتيَّةِ ، ولِما فيه مِن جُنُوحٍ إلى التَّحايُلِ وغَبْنِ حُقوق الآخَرين ، قال تعالى في وصف الإنسان : « وإنَّه لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَديدٌ » [العاديات/8].

والمُعاملاتُ الماليّةُ لها صُوَرٌ كثيرةٌ ومُتعدِّدةٌ، منها مُعاملاتُ البيع والشِّراء والدَّيْنِ والقُرُوضِ والشركات وغيرِ ذلك، وقد خَصَّها الإسلامُ بمجموعةٍ مِن التَّشريعاتِ تحكُمُها وتُنظِّمُها، وأقامها على قواعدَ أخلاقيَّةٍ، درءاً لأسباب الخُصومة والبغضاء، وتنقيةً للنُّفوس مِن أدْواءِ الحسدِ والحِقْد والخِيانة. ورد في الحديث الصَّحيح عن جابرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : « رَحِمَ اللهُ رجُلاً سَمْحاً إذا باعَ ، سَمْحاً إذا اشترى ، سَمْحاً إذا اقتضى » .

فالمسلِمُ سَمْحٌ في بيعه وشرائه، لا يسخَطُ ولا يَضجَرُ ولا يَفحُش، تمثُّلاً لقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ: « إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفاحِشَ المُتفحِّشَ في الأسواق ».

السماحة في الأخلاق:

أمَّا ذِرْوةُ السَّماحةِ في الإسلام فإنَّها تتألَّقُ في تأسيسِهِ منظومةً أخلاقيّةً مُتميِّزةً، تأخذُ بمَجامِعِ النَّفس، وتُغذِّيها بمبادئَ وقِيَمٍ خالدةٍ، تُنيرُ دَرْبَها وتهديها إلى سُبُلِ السَّعادة في الدَّارَين، وأوّلُ مَن تأدَّبَ بهذه القِيَمِ السَّاميةِ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ إذ تجلَّتْ في أقواله وأفعالِهِ، وصاحَبتْهُ في حِلِّه وتَرْحالِهِ، ولازَمَتهُ في سِلْمِهِ وحَرْبِهِ، لذلك امتدَحَهُ ربُّ العِزَّة قائلاً: «وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عظيمٍ». وقد اختزل الرَّسولُ الكريمُ صلواتُ الله وسلامُهُ عليه دعوتَهُ وبِعثتَهُ بقوله: « إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخلاق ».

صور ونماذج من السماحة النبوية:

لم تكن هذه الأخلاقُ العظيمةُ في الإسلام شِعاراً فَضْفاضاً، ولا قِيَماً خاليةً مِن مَضامِينها الإنسانيَّةِ، بل كانت حركةً نابضةً بالحياة، جَسَّدَها الرَّسولُ الكريمُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ في قٌدوَتِهِ لنا بصورةٍ مُضيئةٍ ، فقد آذته قريشٌ في معركة أُحُد، وجمعت جهدَها لقتْلِهِ ووَأْدِ دعوتِهِ، وخرج من المعركة جريحاً وقد كُسِرت رَباعيَّتُهُ وشُجَّ وجهُهُ الكريمُ، فقيل له: يا رسولَ الله ادْعُ على المُشركين، فقال: « إنِّي لم أُبْعَثْ لَعّاناً وإنَّما بُعِثْتُ رحمةً ».

إنَّ رحمتَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وشفقتَهُ العظيمةَ وسماحَتَهُ القلبيَّةَ هي التي تغلِبُ في المواقف العصيبةِ، التي تبلغُ فيها المُعاناةُ أشدَّ مراحلِها، وهذا ما بَرزَ واضحاً لَمَّا سألتْ عائشةُ رضيَ اللهُ عنها رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هل أتى عليكَ يومٌ كان أشدَّ مِن أُحُدٍ ؟ قال : لقد لَقيتُ مِن قومِكِ ما لَقيْتُ،وكان أشدَّ ما لَقِيْتُ منهم يومَ العَقَبةِ؛ إذ عَرَضْتُ نفسي على ابنِ عبْدِ يالَيْل فلم يُجِبْني إلى ما أردْتُ، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفِقْ إلاَّ وأنا بقَرْنِ الثَّعالبِ، فرفعتُ رأسي،فإذا أنا بسَحابةٍ قد أظلَّتْني فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ عليه السَّلامُ ، فناداني فقال: إنَّ اللهَ قد سمِعَ قولَ قومِكَ لكَ وما ردُّوا عليكَ، وقد بعثَ اللهُ إليكَ مَلكَ الجِبالِ لتأمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، فناداني ملك الجِبال فسَلَّمَ عليَّ، ثمَّ قال: يا مُحمَّدُ ! إنْ شِئتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأَخشَبَيْنِ. فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبُدُ اللهَ وحدَهُ لا يُشرِكُ به شيئاً.

السماحة تؤسس لفكر البناء وتحارب الهدم:

هكذا نظر رسول الله إلى قومه ،بنور الإسلام وسماحته ، رفض منهج الاستئصال والإبادة لأعدائه ،وأ راد أن يتخذ من أصلاب الكافرين مصانع بشريةً ،تخرج أجيالاً من المسلمين الموحدين وحين دخل مكّةَ فاتحاً بعد سنواتِ الحربِ والحِصارِ، والبُعْدِ عن الأهل والدِّيار، استسلمتْ له قُريشٌ مُذْعِنةً تنتظرُ الَّتنكيلَ والعذابَ، فيسألُ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ماذا تظُنُّونَ أنِّي فاعلٌ بكُم؟» قالوا: خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ، فقال: « اليومَ أقولُ لكم كما قال أخي يُوسُفُ مِن قَبلُ: لا تثريبَ عليكمُ اليوم، يَغفِرُ اللهُ لكم وهو أرحمُ الرَّاحمين .. اذهبوا فأنتمُ الطُّلَقاءُ » .

دعوة الى إحياء ثقافة السماحة في زمن العنف:

إنّها ثقافةُ ( السَّماحةِ ) في الإسلام، تبعثُ على الرَّحمة، وتُنادي بالمحبَّة، وتحكمُ بالعَدالة. وإن ما تشهده الأمة من لقاءات ومؤتمرات لتقوية مواقفها وجمع كلمتها وتصحيح صورتها المشوهة لهو ميدانٌ واسعٌ، ومَرْتَعٌ خَصْبٌ، لإحياء مفهومِ السَّماحةِ الشَّاملِ، في عِباداتِنا ومُعاملاتِنا وأخلاقِنا، مُتأسِّينَ بقُدوَتِنا ومَثَلِنا الأعلى سيِّدِنا مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم.....