wwww.risalaty.net


العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين


بقلم : المشرف العام الشيخ محمد خير الطرشان

العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين

 

إن موضوع العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين في سوريا يرجع إلى العلاقة التاريخية بينهما ، والتي تمتد منذ خمسة عشر قرناً إلى اليوم ، لذلك هي قضية تعد من المسلّمات الاعتقادية والتشريعية والأخلاقية لنا نحن المسلمين، والسبب في ذلك أن القرآن الكريم وضع أسسه ومبادئه، وقام النبي الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بجعله حياة واقعية نموذجية عملية، ثم نهج الصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم المنهج نفسه، وانطلقت مسيرة العيش الإسلامي المسيحي عبر هذه القرون الطويلة، متألقة منسجمة ، خلا بعض الفترات الزمنية التي كانت العلاقة فيها ترتكس نحو سلبية مظلمة، أو عصبية بغيضة، أو طائفية مقيتة، سببها الجهل بحقيقة الدين السماوي، أو التأويلات المنحرفة، أو الأهواء والمصالح ، أو تدخل الغرباء الذين يسعون لبث بذور الطائفية، تمهيداً لاستغلال بلاد المسلمين والمسيحيين على السواء والسيطرة على ثرواتهم وإمكاناتهم .

لقد وضع القرآن الكريم وسنةُ النبي محمد صلى الله عليه وسلم قواعدَ العيش مع غير المسلمين، وبخاصة المسيحيين، وكانت هذه القواعد أسساً واضحة جلية تستند على حفظ حق مقدس ، ألا وهو حق الكرامة الإنسانية، حيث قال الله تعالى في القرآن الكريم: {ولقد كرمنا بني آدم}( سورة الإسراء: / 70) .

ومن هنا كانت الحصانة الإسلامية لكل البشر بغض النظر عن ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم ودياناتهم، فقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}( سورة المائدة/ 8 ).

إن الأديان السماوية جاءت لتعمل على تربية الإنسان وإعداده إعداداً صحيحاً روحياً ومادياً وفكرياً، ليصبح هذا الإنسان الركيزة الفعالة في بناء المجتمعات الإنسانية المتقدمة والمتحضرة، لذلك أوصته الأديان بكل ما ينفعه، ونهته عن كل ما يضره.

لقد أتت أديان السماء بأصالتها لتحرر عقل الإنسان وتحوله إلى عقل متنور ناضج ، ولم تأت أديان السماء لتتناقض مع العقل والحقيقة، بل لتنسجم معها وتنميها وتنصرها.

وإذا كانت شعوب العالم تتطلع إلى تحقيق السلام العالمي فإن جميع رسالات الأنبياء تأسست على بناء السلام بين الإنسان وربه، وبين الإنسان والإنسان، فهذا سيدنا عيسى المسيح عليه السلام يقول في إنجيل متى : ((طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون )).

وهذا سيدنا محمد عليه الصلاة و السلام يقول في وصاياه: (( الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )) ، والله تعالى يقول بحق محمد صلى الله عليه وسلم: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.

إذاً ، فجميع الرسالات السماوية دعت إلى العفو والتسامح ومحاربة الظلم ، مصداقاً

للحديث القدسي : ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)).

والحقيقة أن الإسلام لم يأت ليلغي الأديان السماوية التي سبقته وإنما جاء مجدداً ومتمماً لها، فسيدنا المسيح يقول: ((ما جئت لأنقض وإنما جئت لأتمم )) وإلى هذا أشار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنَّ مثلي، ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجلٍ بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنةٍ من زاويةٍ، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلاّ وُضعَت هذه اللبنة ؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين))(رواه البخاري في كتاب المناقب ، باب (خاتم النبيين).

والله تعالى يقول في القرآن الكريم: {قولوا آمنا بالله وما أُنزل إلينا وما أُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطِ وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيُّون من ربهم لا نفرق بين أحدٍ منهم...}(سورة البقرة/ 136 .)

وهكذا لم يأتِ المسيح ليهدم رسالة موسى، ولم يأت محمد ليجرد المسيح من رسالته، فكل نبي أتى مصدقاً لما سبقه، والنبي السابق أتى ممهداً لمن بعده، والقرآن هو مجمع كل رسالات السماء، ودعوة للإيمان بكل أنبياء الله، فالأنبياء جميعاً تخرجوا من مدرسة واحدة وربهم واحد وهو الله جلَّ جلاله.

إذاً ، غاية الأديان السماوية مصلحة الإنسان و أمنه وسلامته الدنيوية و الأخروية يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (خلقت الخلق ليربحوا علي لا لأربح عليهم ) . فتعاليم السماء تحقق الرحمة للناس وتكفل لهم حياة متوازنة مستقرة .

ومن هنا جاءت دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  إلى الاجتهاد والتجديد لتظل الرسالة السماوية في طهرها ونقائها بعيداً عن تفسيرات المغرضين والمشوشين : ((يبعث الله على رأس كل مئة سنة من يجدد لأمتي أمر دينها ))

وإن مهمة المجددين للدين حددها النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقول: (( يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)).

وبهذا نصل إلى النتائج التالية :

أولاً : إن الديانتين الإسلامية والمسيحية خرجتا من مشكاة واحدة، وتدعوان إلى الإيمان بالإله الخالق الواحد، وعدم التفرق في الدين، قال الله تعالى في القرآن الكريم: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}(سورة الشورى: / 13)  .

ثانياً : الديانتان تحثان أتباعهما على أن يكونوا أعضاء نافعين في المجتمع ، جاء في حديثٍ للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: ((الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله))(رواه أبو يعلى، والبزار عن أنس، والطبراني عن ابن مسعود).

ثالثاً : وتدعو الديانتان أتباعهما إلى تبادل المودة فيما بينهم قال الله تعالى في القرآن الكريم: {ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى..}

(سورة المائدة: / 82.).

رابعاً : تتفق الديانتان على أن العدل والتكامل هما أساس المجتمع ؛ إذ لابد من القاعدة الإيمانية عند كل إنسان ؛ لتدفعه إلى الالتزام الأخلاقي، مما يحد من وقوع الجرائم، فقد قيل: ( قلبٌ لا إيمان فيه كمحكمة لا قاضي فيها ) .

وقد زاد الإسلام على الرسالات الأخرى وأضاف مساحات فكرية وعقائدية ؛ لتتسع دائرة الإيمان للمستجدات بما يتناسب مع تطور البشرية، فقد جعل القرآن الكريم ثاني أكبر سوره بعنوان "آل عمران" - أي والد السيدة مريم وأسرته - وذلك في جو من التقديس والتبجيل، وعنونَ سورةً أخرى باسم "مريم" الصدّيقة الطاهرة، أم السيد المسيح عليه السلام ، في جو من التكريم والاحترام.

واقع العيش المشترك في سوريا :

1- إن ما حدث في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أذن لوفد نصارى نجران   وكان عددهم قرابة الستين شخصاً أن ينزلوا في مسجده صلى الله عليه وسلم ، و أقاموا فيه فترة من الزمن ،وقدم لههم ضيافة كاملة ؛ طعاماً وشراباً ونوماً ، وأدوا صلاتهم في مسجده الشريف نحو الشرق ، إن هذا الحدث التاريخي العظيم أسس لعلاقة قائمة على الاحترام المتبادل بين المسلمين والمسيحيين في سوريا ، وإن تلك الصورة  تكررت في كنيسة يوحنا الكبرى في دمشق ، التي أصبحت فيما بعد الجامع الأموي الكبير، فقد رضي المسيحيون حين فتح الشام أن يأخذ المسلمون نصفها، ورضي المسلمون أن يصلوا فيها صلاتهم ، فكنت ترى في وقت واحد أبناء الديانتين الإسلامية والمسيحية يصلون متجاورين ، هؤلاء يتوجهون إلى القبلة ، وأولئك يتوجهون إلى الشرق ..

2 - إن تاريخ علاقة المسلمين والمسيحيين في بلاد الشام يؤكد وقوفهم جميعاً في خندق واحد لمواجهة المعتدين والظالمين ، وكان ذلك واضحاً في الحروب الصليبية قبل ألف سنة من الآن ، وقد تكررت الصورة عندما دخل الفرنسيون سورية ، حيث وقف الأستاذ فارس الخوري في جامع بني أمية الكبير ضمن احتفال أقيم ضد الاستعمار الفرنسي آنذاك وخطب قائلاً:

" إن مبرر وجود فرنسة في هذه البلاد هو حماية النصارى - أنا فارس الخوري- نائب النصارى أطلب الحماية منكم أيها المسلمون وأرفضها من فرنسة " .

3 - و يكفي أن نذكرنموذجاً للتلاحم الوطني في سوريا أن العيد الوطني السوري حدد تاريخه بما يتناسب مع مشاعر المسيحيين ،كي لا يتعارض مع الجمعة العظيمة ،" ومن الأنسب أن يعتبر العيد الوطني السوري عيد العيش الديني الأمثل في العالم " . هذا ما صرح به الدكتور جورج جبور القانوني والبرلماني السوري المشهور .

4 -  وأما الواقع الحالي فيشهد انخراط المسيحيين في سوريا في محيطهم المسلم بغالبيته الكبرى ، والجميع متفقون على أنه ليس هناك إشكالية في الانسجام والعيش المشترك ،و أنه على مدى التاريخ لم يكن هناك مشكلة في التعايش بين المسيحيين والمسلمين في سوريا"، وهذا ما تؤكده بعض اللقاءات الصحفية مع كثير من أبناء الديانة المسيحية ، وفي حوار مع شاب مسيحي قال : " ليس هناك  فرق بين مسيحي ومسلم في سوريا. و أنا لا أشعر بأني مسيحي وأن ذاك الشاب مسلم ، لم نربَّ هكذا ، نحن سوريون وهذا الأهم".

 

إن  سوريا أرض الرسالات ، انطلقت منها الحضارات المتعددة ، وسار على ترابها الأنبياء والمصلحون ،ستبقى تنهل من هذا المعين التاريخي الأصيل الذي ينظر إلى الإنسان باحترام بغض النظر عن معتقده وعرقه ولونه ولغته ..

 

وعلى الرغم مما عانته البشرية خلال القرون الماضية من صراعات هائلة ، وتناقضات فكرية أدت إلى إشعال حروب عالمية وقتل عشرات الملايين من الناس، إلا أن الدين كان مستبعداً في هذه الصراعات عن الساحة الإنسانية، ووصل الإنسان في هذا القرن إلى نتيجة هامة ، وهي أن الفكر والاعتقاد الذي يصلح للبشرية هو الدين الذي أنزله الله تعالى خالق البشرية إلى عباده. وأن جميع الديانات السماوية ذات مصدر واحد وهدف واحد، والقرن الحادي والعشرون ينبغي أن يكون قرن الإيمان، و إن أخطر أمراض الحضارة المعاصرة هو الجهل بحقيقة الأديان السماوية ودعوتها .

 

إن تاريخ العيش الإيجابي بين المسلمين والمسيحيين في بلاد الشام، مستمر ويجب أن يستمر ويصان وينمو من قبل الطرفين . و علينا أن نعي الحقائق المهمة التالية :

أولاً: إن الواجب على المسلمين والمسيحيين في الوطن وخارجه أن يحافظوا على العيش الإيجابي المشترك القائم على الاحترام والتقدير ، ومن هنا تكون مقولة ( إلغاء الآخر ) مقولة مرفوضة.

ثانياً: يجب أن تطوى صفحات الجدل العقيم بين المسلمين والمسيحيين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران ، عملاً بقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن}(سورة العنكبوت: / 46).

ثالثاً: على المسلمين والمسيحيين أن يسعوا إلى مواجهة أية بذور للتفرقة والتمزق في صفوف مجتمعنا حتى لا نفسح المجال لدخيل يعيث بيننا فساداً.

رابعاً: يجب على المسلمين والمسيحيين رص الصفوف لمواجهة الغطرسة الصهيونية التي تغتصب الأراضي العربية ، وتظلم أبناء المسلمين والمسيحيين بطغيانها واستلابها للحقوق ، وممارستها محو الهوية التاريخية والإيمانية للأراضي العربية. وعلينا أن نقوم بواجبنا المشترك  في نصرة المظلومين في العالم، وبصورة خاصة حماية القدس ونصرتها وحماية مقدساتها، ونصرة الشعب الفلسطيني الذي عانى من ظلمٍ واسع خلال هذا القرن ، حيث هُدمت بيوت الفلسطينيين وصودرت أراضيهم وشُردوا في كل أنحاء العالم .

 

ونحن هنا في هذه المنطقة المهمة من العالم ( مسلمين ومسيحيين ) دعاة سلام وتسامح، ونريد حياة كريمة لأنفسنا وللآخرين، لكننا نرفض بشكل قاطع أن تغتصب أراضينا، وأن تهدر حقوقنا، وأن تنتهك مقدساتنا..