wwww.risalaty.net


رمضان مدرسة الأخلاق


بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان

 

لا بد لنا من وقفة عند أبرز المحطات التي يتزود منها المسلم في رمضان من حياته الدنيوية لحياته الأخروية، من مدرسة الثلاثين يوماً، مدرسة الأخلاق ومكارم الأخلاق والفضائل .
فالصائم يربي نفسه على جملة من الأخلاق والسلوكيات العظيمة، والتي من أبرزها ( الإخلاص ) في النية والعمل، استجابة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ".
فالمسلم لا يصوم رياءً ولا سمعة ، بل يصوم مخلصاً لله راجياً ثوابه .
كما يربي نفسه على الخوف والرجاء ـ وهما جناحان لا بد للمؤمن أن يطير بهما إلى الله ونعيم الآخرة ـ فالصائم يخاف ربه وحده في الحفاظ على صيامه ، وهو يرجوه وحده في المثوبة على صيامه ، وإذا كان الصائم إنما يصوم إيماناً بالله فلا شك أن الإيمان خوف ورجاء ، خوف من عذاب الله ورجاء في رحمته وطمع في جنته ، وهكذا يحقق الصائم المحتسب منزلتي الخوف والرجاء ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن الموحد .
أما خُلق ( المراقبة ) فالصيام يزكيه وينميه ويقويه ، ذلكم أن الصائم يمسك عن المفطرات كلها ـ الحسية والمعنوية ـ ، فتراه أميناً على نفسه رقيباً عليها ، متمثلاً هيبة مولاه ، ومقدراً رقابته عليه واطلاعه على كل حركاته وسكناته ، فلا يخطر بباله أن يفسد صيامه ولو توارى عن الأعين واختفى عن الأنظار، بل هو موقنٌ أن الله يراه حيث كان ، وتلك هي منزلة الإحسان العظمى .
و المسلم الذي يربي نفسه على مراقبة الخالق ، يجد ثمرة مراقبته في صلته مع المخلوق ، كما قال بعض العارفين: " لا يحسن عبدٌ فيما بينه وبين الله إلا أحسن الله فيما بينه وبين الناس ".
أما خلق "الحياء " فهو خلق يبعث على فعل الحسن وترك القبيح من العمل ، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ، وهكذا يغلب الحياء كلما همت نفسه الأمارة بالسوء بما يفسد الصيام .
 ألا ما أحوجنا إلى الحياء في حياتنا كلها ، يقول الحسن البصري رحمه الله : أربع من كن فيه كان عاقلاً ، ومن تعلق بواحدة منهن كان من صالحي قومه " دينٌ يُرشده ، وعقلٌ يسدِّدُه ، وحسَبٌ يصونه ، وحياءٌ يقوده " .
و أما ( الحلم ) وما أداركم ما الحلم ؟ ذلك الخلق العزيز، فللصوم تأثير ظاهرٌ فيه ، كيف لا والصائم يقال له " إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم " .
إن الصائم تهدأ نفسه ويسيطر على مشاعره ، ويتنازل عن جهل الآخرين عليه ، ولا يُستَفَزُّ فينتقمُ لنفسه ، بل يعفو ويصفح ، ويتجاوز ويغفر ، وهذا مِقْود الحلم وزمامه ، وكم هو فضل الله عظيم على من يملكون زمام أنفسهم بالحلم والصفح حتى وإن قدروا على الانتقام ، رحم الله الأحنف بن قيس لمَّا شتمه رجل وتبعه حتى بلغ حيه ، فقال له الأحنف : "  إن كان بقي في نفسك شيء فقله وانصرف ، لا يسمعك بعض سفهائنا فتلقى مكروهاً " .
يتفاوت الناس في الاستفادة من مدرسة الصوم وتعويد النفس على الأخلاق الفاضلة ..وينقسمون إلى ثلاثة أصناف :
1-فمن الناس من لا يستفيد لا في رمضان  ولا غيره في إصلاح خلقه وتزكية نفسه ، وهذا الصنف يظن أن الصيام إمساك عن الطعام والشراب فحسب ، وغاب عنه حكمة الصيام وتقوى الصائم.
2-ومنهم من يستفيد من دروس رمضان وينهل من مدرسته الأخلاق ، لكنه يضعف عن المواصلة بعد انقضائه ، وربما فهم خطأً أن ترك الحرام ، أو عدم التقصير في الواجبات من سمات رمضان فقط ، فإذا انتهى رمضان عاد إلى ما كان عليه من ترك الواجبات ؛والتقصير في حق الله تعالى ، و عاد إلى فعل المحرمات كالغش والخداع والغيبة والفحش والبذاء والاحتكار وغير ذلك من المحرمات ..
3- أما الصنف الثالث فهم المصطفون الأخيار وهم الذين وفقهم الله لتزكيةنفوسهم في رمضان ثم واصلوا تزكيتها في سائر العام ، وكلما مسهم طائف من الشيطان أو ضعفت نفوسهم عن المعاني تذكروا فإذا هم مبصرون ، وتابوا وأنابوا إلى ربهم وما يزالون في جهاد لأنفسهم ومجاهدة لأهوائهم حتى يلقوا ربهم .
أخي الصائم : لنربأ بأنفسنا أن يمر علينا شهر رمضان دون أن نستفيد من حكمه وأسراره ، وعلينا أن لا نقصُرَ هذه الفائدة على أيام معدودة بل نجعل من رمضان فرصة لتزكية أنفسنا طوال العام ، والله تعالى يقول : " قد أفلح من زكاها " أي طهرها من الذنوب ورقَّاها بطاعة الله وأعلاها بالعلم النافع والعمل الصالح ، ولنحذر من انغماس أنفسنا وتدنيسها بالرذائل ، والوقوع فيما يشينها ، والله تعالى يقول : " وقد خاب من دساها " ، أي : أخفاها في مواقع المعاصي ، وأمات استعدادها للخير بالمداومة على اتباع طرق الشيطان .
ولنختم صيامنا بـ ( الاستغفار ) ، الذي ختمت به حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم " فسبح بحمد ربك واستغفره " ولنختم به شهر رمضان ، كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان " بالاستغفار وصدقة الفطر " .
ولأهمية الاستغفار جمع الله بينه وبين التوحيد في آية واحدة ،قال تعالى " فاعلم أنه لا إله إلا اللهُ واستغفر لذنبك ".  
وكان من وصايا لقمان لابنه " يا بني عوِّدْ لسانَك الاستغفار ، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً " وقال قتادة رحمه الله – أحد أعلام المفسرين - : " إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم ، فأما داؤكم فالذنوب ،وأما دواؤكم فالاستغفار " .
 ألا فلنكثر من الاستغفار لتغفر ذنوبنا ، ولنكثر من الاستغفار - معاشر الصائمين – لنجبر ما اختل من صيامنا ، ونصحح ما اعوج من أخلاقنا ، وبذكر الله عموماً تطمئن القلوب ، وبالاستغفار تنصرم الذنوب .
وبعد أيها الإخوة : حق على كل صائم أن يسأل نفسه : ماذا بقي لي من آثار الصيام ، وماذا سيتركه فيَّ من حسن الأخلاق وكريم الخصال ؟ ليختبر كلٌّ منا نفسه في الإخلاص في رمضان وبعد رمضان ولنصارح أنفسنا في المراقبة والحياء والحلم والكرم والجد والاجتهاد والبر والصلة ، والذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ونحوها ، ما حالها معنا في رمضان وبعد رمضان ؟
اللهم لك الحمد أن بلَّغتنا رمضان ، و أنعمت علينا بصيام نهاره وقيام ليله ، فاختمه لنا بتوبة صادقة ترضى بها عنا ، وتقبل بها أعمالنا ، وتصلح بها أحوالنا ، إنك على كل شيء قدير .
والحمد لله رب العالمين .