wwww.risalaty.net


قبسات من سيرة الزهراء ( 2 )


بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان

 

هذه بعض النماذج من حياة الزهراء رضي الله عنها...
1- دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساءٌ من وبر الإبل (خشن)، فبكى عليه الصلاة والسلام، ورقّ قلبه على ابنته المقرّبة إلى قلبه، التي كان يناديها "يا أمّ أبيها"، فقال لها: "تجرّعي يا فاطمة مرارة الدنيا لنعيم الآخرة" أي اصبري وتحمّلي فإن هذه الدنيا فانية، والآخرة هي الباقية.
2- ومرّةً أقبلت فاطمة، فوقفت بين يديّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليها وقد ذهب الدم من وجهها، وعليها صُفرةٌ من شدّة الجوع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اُدْني يا فاطمة". فدنت حتى قامت بين يديه، فرفع يده فوضعها موضع القلادة، وفرّج بين أصابعه، ثم قال: "اللهمّ مُشبع الجاعة، ورافع الضيق، ارفع فاطمة بنت محمد".
3- ومرّةً عادها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي مريضة، فقال لها: "كيف تجدينك يا بنيّة؟" قالت: "إني لوَجعةٌ يا أبتاه! وإنه ليَزيدني وجعاً أني مالي طعامُ آكله". فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بنيّة: أما ترضين أنّك سيّدة نساء العالمين؟ قالت: يا أبت، فأين مريم بنت عمران ؟ قال: تلك سيّدة نساء عالمها، وأنت سيّدة نساء عالمك هذا _ سيدة نساء هذه الأمة _ أما والله لقد زوّجتك سيّداً في الدنيا والآخرة ".
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخشى على فاطمة من التنّعم بحياتها، مع ما عليه المسلمون آنذاك من الخشونة وشظف العيش، حرصاً منه على أن يظلّ بيت النبوّة أسوةً للمسلمين.
4- دخل عليها يوماً وفي يدها سلسلة من ذهب، وهي تقول لامرأة عندها: "هذه أهداها لي أبو الحسن". فقال لها: "يا فاطمة! أيسرّك أن يقول الناس: ابنة رسول الله في يدها سلسلة من نار؟!". ثم خرج رسول الله ولم يقعد، فأسرعت فاطمة فأرسلت بالسلسلة فباعتها، واشترت بثمنها عبداً أعتقته، فسُرّ رسول الله بصنيعها، ودعا لها.
زواج السيدة فاطمة رضي الله عنها:
و مما تفتخر به المرأة عادة هو عرسها، فكل النساء يحببن أن يكون عرسهن مغايراً لمثيلاتهن، فهل كان في عرس السيدة فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تميز وخروج عن المألوف؟ وهل كان فيه مظاهر وإسراف وتبذير؟ وهل كان فيه خروج عما كانت عليه بنات عصرها وزمانها؟؟ أبداً لم يكن ذلك، وإنما كانت أقل من نساء عصرها كلفة وبذلاً للمال؛ لتكون قدوة للمرأة المسلمة الفقيرة والغنية، ولكي يقتدي بها الناس جميعاً.
من المعروف أن كلاً من أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - خطبا السيدة فاطمة، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتظر بها القضاء". وكأنه كان يهيئها ويحجزها لسيدنا عليّ رضي الله عنه، ولم يكن عند عليّ شيء، حتى أنه قال لمن ذكّره بها: "وعندي شيء أتزوج به؟". وهو أول فدائي يضحي بنفسه من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه رغب بمصاهرة رسول الله، فجاء إليه، وقصده يخطب فاطمة، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أدرك بنور النبوة حاجته فقال له: "يا عليّ! لعلّك جئت تخطب فاطمة؟. فقال علي باستحياء وأدب: نعم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل عندك ما تستحلّها به؟ قال: لا والله يا رسول الله! فقال له عليه الصلاة والسلام: ما فعلت بالدرع التي سلّحتُكها؟ قال: هي عندي، قال: قد زوّجتك، فابعث بها". وبمنتهى البساطة، تمت خطبة فاطمة، وبيعت تلك الدرع، ولم يكن مهرها يزيد على أربعمئة درهم، وجهّزها رسول الله بجلدٍ وخميلةٍ، وسقاءين وكأس، ووسادة من ليف، وغطاءٍ قصير، ورحى ومنخل. هذا جهاز فاطمة مقارنةً بهذا الزمان الذي أصبحت فيه النساء تتباهى، وتتفاخر بكثرة الأمتعة، والثياب، واللباس، والزينة، وصالات الأفراح، وأماكن الإقامة، حتى بطاقات الأفراح، وما كانت الزهراء تفاخر على أحد، وقد زوّجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيدَ العرب والمسلمين (سيدنا عليّاًّ رضي الله عنه).
وكان سنّ فاطمة حين تزوجت خمسة عشر عاماً، وخمسة أشهر، ونصفاً، وسنّ سيدنا عليّ في إحدى وعشرين عاماً، وخمسة أشهر، أي إن الفارق الزمني لم يزد على ستة أعوام، وقال علماء الأحوال الشخصية: يشترط في الزواج الكفاءة في النسب، والمال، والسن، والعلم، وقد كان علي كفؤاً لفاطمة من حيث النسب، والقرابة، والعلم، والمال، لذلك كانت أسرتهما من أسعد الأسر في التاريخ، وأنجبا ريحانتي رسول الله، صلى الله عليه وسلم (الحسن والحسين).
فاطمة الشاعرة:
إذا كان التوافق موجوداً في كل شيء بين السيدة فاطمة وسيدنا علي، وقد كان سيدنا علي معروفاً بأنه فصيح اللسان، قوي الحجة والبيان، فهل كانت كذلك السيدة فاطمة؟؟   
نعم. فإنها تعدّ إحدى النساء البليغات عبر العصور، فقد أحصى صاحب كتاب "أعلام النساء" الفواطمَ في العصور الإسلامية، ممن قُلن الشعر، وعَرفن الأدب والحجة والبيان، وممن تفقّهن وتصوّفن، فبلغ عددهن (235) خمساً وثلاثين ومئتين، من بينهن السيدة فاطمة، وهي على رأسهن. والتي كانت بدايتها مع الشعر، عندما كانت ترقص ولدها الحسين - رضي الله عنه - وكان أشبه الناس برسول الله، تُرقصه وهي تقول:
إنّ بنـي شـبـهُ النـبــيّ      لـيـس شـبيـهاً بـعـليّ
ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت نثراً لا زلنا نترنم ونرقق به قلوبنا حتى اليوم، قالت له: "يا أبتاه! واكرباه!"، وذلك في لحظات الاحتضار، فقال لها النبي، صلى الله عليه وسلم: "لا كرب على أبيك بعد اليوم". صحيح ابن حبان.
ثم قالت بعد أن جاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بروحه: "يا أبتاه! أجاب رباً دعاه، يا أبتاه! من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه". وبعد دفنه لقيت أنس بن مالك، فقالت: يا أنس! كيف طابت أنفسُكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟!! ثم بكت، وقالت ترثيه:
اغبرّ آفاقُ السـماء وكوّرت      شمس النهار، وأظلم العصرانِ
فالأرض من بعد النبيّ كئـيبةٌ      أسـفاً عليه كثيرةُ الرّجَفـانِ
فلْيبكِِهِ شـرقُ البلاد وغربُها      ولْتـبكه مُضـرٌ وكلُّ يمـانِ
وليبكه الطـودُ العظيمُ وجودهُ      والبيت ذو الأستار والأركانِ
يا خاتمَ الرسـلِ المبارك ضوؤهُ      صلّى عليكَ منـزِّلُ القـرآنِ
ووقفت السيدة فاطمة على قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، وأخذتْ قبضةً من ترابٍ، فوضعتْها أمام عينها تشمّها وتبكي، ثم أنشأت تقول:
ماذا عـلى مـن شـمّ تربة أحمدا     أن لا يشَـمَّ مدى الزمان غَوالـيا
صُـبّت عليّ مصـائبٌ لـو أنّها    صُـبَّتْ على الأيـام صِرن ليالـيا
فمَن تحمّل المصائب مثل ما تحمّلت السيدة فاطمة؟ التي فقدت أمها وهي صغيرة، ثم فقدت أختها الكبرى، ثم فقدت أختيها "أم كلثوم ورقية" وبقيت وحيدة مع سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم!!
 وكان من آخر ما قالت تودّع به الدنيا على قبره عليه الصلاة والسلام:
إنّا فـقدناك فقدَ الأرضِ وابِِلَـها    وغابَ مُذ غِبتَ عنّا الوحيُ والقلمُ
فليـتَ قبـلكَ كان الموتُ صادَفنا   لما نُعـتَ وحالَتْ دونكَ الكُثُـبُ
رضي لله عنكِ وأرضاك يا سيدة نساء العالمين، وسلامٌ عليكِ يوم ولدتِ، ويوم متِّ، ويوم تبعثين مع الأحياء.
*   *   *
هذه بعض ملامح القدوة في حياة السيدة فاطمة - رضي الله عنها - في ذكرى مولدها العطر، ذكرى تجديد الانتماء إلى أمّهاتنا، وإلى سلفنا الصالح رضي الله عنهم.
والحمد لله رب العالمين..