wwww.risalaty.net


العلامة البوطي و السلف الصالح


بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان

 

 
مدخل:
هل أصبحت الحقائق الدينية الثابتة في القرآن الكريم خرافة في نظر دعاة النهضة والتنوير والتجديد؟
و كيف يجوز للبعض أن ينسبوا "الخرافة" لفكر علامة الشام المجدد الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي؟
وهل كل من أوتي حذلقة في اللسان وبراعة في البيان تناسب توجهات بعض العلمانيين وتتطابق مع آرائهم يُعد صاحب منهج علمي؟
لعل فئة من الكتاب غير المتمرسين في العلم الشرعي يناسبهم أن يكسبوا تعاطف القراء السطحيين، ويطربون لعبارات الإعجاب على حساب اتهامات تكال لرجال أفنوا حياتهم في العلم والتعليم والدعوة إلى الله تعالى بصدق، ليأتي من يركب موجة النقد باسم المنهج العلمي ليحقق مأربه من الشهرة والعلو المكتسب بغير حق..
هل نستنكر على رجل علم ودعوة أفنى حياته في العلم والعمل، كتب عن ضوابط المصلحة ووضع القواعد لعلم أصول الفقه، وحدد معالم الفكر الإسلامي من خلال كبرى اليقينيات الكونية، وحلل مواقف السيرة النبوية، واستجلى معالمها الفقهية وأحكامها التشريعية، و ناظر الملاحدة والطبيعيين والوجوديين والديالكتيك، ودحض حججهم، وحاور الغرب وناقش قضايا المرأة، وحدد معالم فقه الجهاد في الإسلام، وأنجز موسوعته السلوكية الأخلاقية بشرح الحكم العطائية، وكأنه بذلك يعيد سيرة الإمام محمد بن محمد الغزالي (505هـ). 
ليس بمستنكر ولا مستغرب على رجل من أهل الصلاح والتقوى والعزوف عن الدنيا، أن يحدثني بإلهام رباني أُلقي في روعه.. لكن البعض تجرأ على الشيخ العالم ووصفه بأنه خرافي، ووصف عمله بأنه انكفاء في ميدان العمل الدعوي..
وأرى أنه يحق للشيخ الجليل أن يكون رأيه العلمي كما له أن يتحدث عن مكاشفات وإلهامات، ناتجة من رقة قلبه، وصلته مع الله ونقاء سريرته، وصلاح عمله، ونور بصيرته، وهو من خصوص الخصوص في هذا العصر، ويتكلم بلغة هؤلاء النخبة وليس بلغة العامة من الخلق، وإذا كان لدى أنصاف المتعلمين والجهلة والسطحيين جرأة على العلماء وأهل الله، فهو دليل على أنهم لا يدركون أبعاد كلام الشيخ الجليل بارك الله في حياته.
ولكن القرآن والسنة وأخبار السلف الصالح تخبرنا أن الكشف والإلهام حقيقة، ولم يطلق على أصحابها مسمى "الخرافيين". فلماذا يوصف الدكتور البوطي –وهو العالم الجليل– بأنه خرافي؟
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يرويه سيدنا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" [أخرجه الترمذي في سننه].
النظر بنور الله والفراسة والكشف بالنسبة للمؤمن أمر من المسلمات؛ لأن المكاشفة إنما هي مكاشفة اليقين ومعاينة الغيب وما وراء الستر.. والفراسة في لغة العرب معناها التثبت والنظر، وقال بعض العلماء: الفراسة هي خاطر يهجم على القلب أو وارد يتجلى فيه، لا يخطئ غالباً إذا صفا القلب..
والكشف: نورٌ يحصل للسالكين في سيرهم إلى الله تعالى، يكشف لهم حجاب الحس، ويزيل من طريقهم أسباب المادة لما يأخذون به أنفسهم من مجاهدة وقهر للنفس وخلوة وذكر لله تعالى..
فتنعكس أبصارهم في بصائرهم، وإذا كان البصر هو عين الرأس، فإن البصيرة هي عين القلب؛فأولئك الذين تنكشف أبصارهم ببصائرهم ينظرون بنور الله، وتمحى من أمامهم، وتُزال مقاييس الزمان والمكان، فيطلعون على عوالم بأمر الله وإذنه اطلاعاً لا يدركه من كان محاطاً ومقيداً بالشهوات والشكوك والبدع والوساوس الشيطانية، ولا تتسع لهذه المكاشفة وهذه الأنوار إلا تلك القلوب النّيّرة السليمة، التي زالت عنها ظلمات الدنيا وغاشيتها، وانقشعت عنها غيوم الشك والوساوس وكثافة الماديات.
 
ولكن لماذا هذا الكلام؟
ربما يسأل البعض: وما الدافع إلى هذا الحديث؟ أن نتحدث اليوم عن نور البصيرة، عن الفراسة، وعن المكاشفة، وعن تجليات القلوب، ما الدافع لهذا الحديث؟
أقول: لقد أكرم الله سبحانه وتعالى كثيراً من ساداتنا العلماء من الثقات من أهل العلم، ممن اختصهم الله سبحانه وتعالى بالعلم الغزير والرأي الوافر والثقة بالقول، اختصهم الله تعالى فأطلعهم بطريقة الكشف والفراسة ونور القلب على بعض الحقائق، فأنكر بعض الناس على هؤلاء العلماء أن يقول أحدهم: (رأيت فيما يرى النائم، وأنا بين النائم واليقظان كذا وكذا...).
أنكروا عليهم صورة من صور الكشف، وهذا لا يقوم به ولا يجرؤ عليه إلا أهل الله، ولا يقوله إلا أهل العلم الثقات، وخاصة إذا كان من العلماء العاملين، ممن يشهد لهم القاصي والداني بعلمه وتقواه ونور قلبه ونور بصيرته، وممن يشهد الناس في الشرق والغرب بأنه من أعلام الإسلام في هذا العصر؛ فإذا قال مثل هذا القول فليس لنا إلا أن نصدقه، وأن نأخذ بقوله على محمل الجد واليقين، أو أن نتأدب في عرض رأينا؛ لأن المكاشفة لها أصل ثابت في القرآن الكريم، ولو أن بعض الناس تجرأ فقال "هذه خرافات"، وبعضهم الآخر ممن يظن نفسه يحمل لواء النهضة وراية الدعوة إلى التنوير - ونحو ذلك من هذه المقولات التي نسمع بها بين الحين والآخر- جعل مثل هذه الظاهرة أنها تراجعٌ في الدعوة إلى الله، ونسوا أن الكشف ونور البصيرة والفراسة إنما هي حقائق قرآنية، وكانت شيئاً مألوفاً عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظلت كذلك تجري على أيدي العلماء الثقات الربانيين العاملين الذين آتاهم الله نوراً في القلب وفراسة وبصيرة..
 
 أدلة الكشف من القرآن الكريم:
نبدأ بالقرآن الكريم، الذي يدلنا على أن الكشف حقيقة وليس خرافة كما يدعي بعضهم، وليس انكفاء إلى عالم الظلمات كما يقول آخرون، إنما الكشف كما قال الله تعالى في حق سيدنا إبراهيم: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام:75]، أطلع الله سبحانه سيدنا إبراهيم على بعض الحقائق من علم الغيب، وكشف له عن بعض حقائق المستقبل ليوقن قلبه بالله تعالى.
إذن.. الكشف حقيقة، ونور البصيرة حقيقة، لا يمكن أن ينكرها إنسان مادام سيدنا إبراهيم قد أطلعه المولى تبارك وتعالى على ملكوت السموات والأرض؛ ليزداد قلبه إيماناً ويقيناً.
يؤكد ذلك أيضاً في القرآن ما أخبر عنه الله تعالى عن الخضر عليه السلام حينما صحب سيدنا موسى عليه السلام في مواقف ثلاثة، كل موقف يبدي بصورة واضحة حقيقة الكشف والبصيرة ونور القلب.
أما الموقف الأول: فقد انكشف فيه لبصيرة الخضر عليه السلام أن السفينة التي يركبها في البحر سيأخذها ملكٌ غاشمٌ ظالم، فخرقها ليعيبها ولينقذها من شر ذلك الغاصب؛ مكافأة للمعروف بالمعروف. قال تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾ [الكهف:79].. كيف اطّلع الخضر على هذه الحقيقة؟ لقد أطلعه الله بطريق الكشف والفراسة ونور البصيرة على هذا الأمر، فخرقها؛ ليعيبها ويزهد فيها ذلك الملك ولا يأخذها، وبذلك يرد الخضر الدَّين، وهو المعروف الذي قدمه له أصحاب السفينة.
أما الموقف الثاني: فقد كُشف للخضر عليه السلام عن الغلام الذي إن بقي حياً فسيقتل أبويه في كبره ويوقعهما في الكفر، فقتله رحمةً بأبويه، وكان أبواه من المؤمنين، وقتله استجابة لإرادة الله وأبدلهما خيراً منه زكاة ورحمة، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾ [الكهف:80]. إذن.. لم يتصرف الخضر عليه السلام بذلك الأمر الخطير -قتل الغلام- إلا بطريق الكشف ونور البصيرة الذي أخبره الله وأطلعه به على الغيب.
وأما الموقف الثالث: فقد كُشف للخضر عليه السلام الكنز الذي كان تحت الجدار، وكان لغلامين يتيمين من أب صالح، فأقام الجدار بعد أن كاد أن ينقض وينهدم، أقامه حفاظاً عليه ورحمة بالغلامين ومحبة بأبيهما الصالح بلا أجر ولا مقابل، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ [الكهف:82]. وهنا أيضاً لم يتصرف الخضر عليه السلام إلا بنور البصيرة وبالكشف؛ فالله تعالى أطلعه على الخير الذي ينبغي أن يعمله، فعمله.
نتيجة:  فالكشف ثابتٌ في القرآن الكريم في مواضع عدة، وكذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أول من كُشف له وأول من نوَّر الله بصيرته.
 
r أدلة الكشف من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يروي سيدنا أنس رضي الله عنه فيقول: أُقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري" [رواه البخاري]، فالكشف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة.
ويقول سيدنا أنس رضي الله عنه كذلك، وهو يروي عملية كشف أخرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حدثت يوم غزوة مؤتة: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً وجعفراً وعبد الله بن رواحة ورفع الراية إلى زيد، فأصيبوا جميعاً، فنعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس قبل أن يجيء الخبر فقال: "أخذ الراية زيد فأُصيب، ثم أخذها جعفر فأُصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأُصيب"، وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان، يقول: "ثم أخذها خالد بن الوليد ففتح له" [رواه البخاري]. أي فتح الله على يديه وكان النصر المحقق في غزوة مؤتة.
وهذا دليل آخر من السنة على أن الكشف ونور البصيرة أمر حقيقي لا مرية فيه، ولا يمكن لنا أن نسميه خرافة أو تلاعباً بعقول الناس.
 
 ما الخرافة؟
الخرافة: هي التي يدعيها جاهل أو متعّنت، أو التي يدعيها مبطلٌ، وهي كل دعوى لا تقوم على دليل حق.
فأما أن يكون أمر فيه نذير لعامة المسلمين، فهذا لا يجوز أن نسميه خرافة ولا انكفاءً في العمل الدعوي، وإنما علينا أن نعيد النظر في علمنا وثقافتنا ورؤيتنا القاصرة التي تتهم علماء الإسلام وأهل الله وأصحاب القلوب النيرة بأنهم خرافيون.
 
r أخبار عن المكاشفة من الصحابة:
كان للصحابة رضي الله عنهم -أصحاب البصيرة النيرة الصادقة- مكاشفات، ومن ذلك:
m ما ورد عن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو الذي شهد له القرآن بالصدق في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [الزمر:33]، فالذي جاء بالصدق هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدّق به هو سيدنا أبو بكر رضي الله عنه.
ورد عن سيدنا أبي بكر مكاشفات كثيرة؛ منها ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها، أن أبا بكر عندما حضرته الوفاة دعاها فقال لها: "إنه ليس في أهلي بعدي أحد أحب إلي غنًى منك، ولا أعز علي فقراً منك، وإني كنت نحلتك من أرض العالية جداد عشرين وسقاً [الوسق: حمل بعير من الثمر أو مما تنبته الأرض]، فلو كنت جددت ثمراً عاماً واحداً انحاز لك، وإنما هو مال الوارث [أي إن كنت جنيت ثمره مرة واحدة فهو من حقك؛ لأن الهبة تملك بالقبض، ولكن بما أنك لم تقطعي ثمره فسيعود للورثة]، وإنما هما أخواك وأختاك".
فقالت عائشة: "يا أبتاه إنما هي أسماء، فكيف تقول لي أختاك؟". فقال: "وذات بطن ابنة خارجة فقد ألقي في روعي أنها جارية فاستوصي بها خيراً" [وكان متزوجاً من امرأة من بني خارجة، وكانت حاملاً عندما مرض أبو بكر مرض الوفاة]. قالت عائشة: "وولدت أم كلثوم"..
علق الإمام السبكي على هذا الحديث فقال: فيه كرامتان لأبي بكر:
الأولى أنه سيموت في ذلك المرض، إذ قال: "وإنما هو مال وارث". وهو فعلاً قد مات في ذلك المرض.. والثانية إخباره بمولود له، وهو الجارية الأنثى، وليس الذكر، وقد أكرم الله أبا بكر بهذه الكرامة وكشف له، وتكلم أبو بكر بنور البصيرة، وهذا يدل على أن قلبه كان منوراً؛ فسيدنا أبو بكر رضي الله عنه كان من أصحاب الكشف ومن أصحاب الفراسة ولم يكن خرافياً.
هل يستطيع أحد أن يقول إن أبا بكر في هذا الكلام يعد خرافياً؟!!، وهي الرواية التي أخرجها الإمام سعد في الطبقات، لا يستطيع أحد أن يتهم سيدنا أبا بكر بأي تهمة، ولا نملك إلا أن نقول: إنه كان من أصحاب الكرامات ومن أهل الكشف ومن أهل الفراسة.
m وماذا نتحدث عن كرامات سيدنا عمر رضي الله عنه، الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كان من الملهمين والمحدثين.
يقول سيدنا أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم أناس محدثون فإن يك في أمتي أحد منهم فهو عمر بن الخطاب" [صححه الألباني]، فإن يكن أحد محدثاً أو ملهماً من أمة سيدنا محمد فهو عمر بن الخطاب.
رُوي عن سيدنا عمر أخبار كثيرة تدل على ذلك، منها أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان قد أمَّر سارية على جيش من جيوش المسلمين، وجهزه على بلاد فارس، وبينما هم على أبواب نهاوند، وكانوا في حالة حصار لها، فكثرت جموع الأعداء حتى كاد ينهزم المسلمون، وكان سيدنا عمر في المدينة، وإذ به يصعد المنبر ويخطب بالناس، ويستغيث الله بنصرة الجيش، وفي أثناء خطبته علا صوته بقوله: "يا سارية الجبل يا سارية الجبل، من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم". وظل يكررها حتى قال الناس: ماذا يقول عمر؟ ولماذا يخاطب سارية وسارية في نهاوند في طريقه إلى بلاد فارس؟
قال: فأسمع الله سارية وجيشه أجمعين صوت عمر وهم على باب نهاوند، فلجؤوا إلى الجبل، واعتصموا به وهم يقولون: هذا صوت أمير المؤمنين. فنجوا وانتصروا.
هذه الكرامة لم تكن لتقع لسيدنا عمر لو لم يكن على حال من الصلة بالله وعلى درجة من اليقين به تعالى، ولم يقصد سيدنا عمر هنا إظهار الكرامة، ولكنه كان قد رأى القوم عياناً فغاب عن مجلسه بالمدينة، واشتغلت روحه بما دهم المسلمين، فخاطب أميرهم خطاب من هو معه كأنه يراه، وكأنه يشاهده بأم عينه، فقال له: يا سارية الجبل يا سارية الجبل، فهذه القصة تدل على أمرين اثنين:
الأول: الكشف الصحيح والرؤيا على بعد آلاف الأميال، فلم يكن هناك أقمار صناعية ولا شاشات تلفاز، ولا محطات فضائية لتنقل إلى سيدنا عمر رضي الله عنه مشهد الجيش وهم على أبواب نهاوند، إنما هو نور البصيرة والكشف، والفتح من الله تعالى.
الثاني: إبلاغ صوت عمر لسارية وجنده وهم على بعد مسافة بعيدة، فكأنهم كانوا مع سيدنا عمر بالصوت والصورة، وكان سيدنا عمر يشاهدهم و يتابعهم بأم عينيه، فإذا به ينادي: يا سارية الجبل.
*في تاريخ سيدنا عمر حوادث كثيرة تدل على نور بصيرته وعلى الفتح الذي فتحه الله عليه، ومن ذلك ما أخرجه الإمام ابن عساكر رحمه الله تعالى فقال: إن كان الرجل ليحدث عمر بالحديث فيكذب الكذبة [أي يكذب على سيدنا عمر]، فيقول له عمر: احبس هذه [أي: احذفها]، ثم يحدثه بالحديث، فيقول: احبس هذه، فيقول له بعد ذلك: كل ما حدثتك حق إلا ما أمرتني أنت أن أحبسه. (يعني: في النهاية يكشف الرجل عن نفسه).
وكذلك أخرج الإمام ابن عساكر عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: إن كان أحد يعرف الكذب والصدق فهو عمر بن الخطاب، كان يكشف الرجل إذا حدثه بحديث وكان الحديث كذباً.
*أما الحادثة الأكثر شيوعاً وانتشاراً فهي عن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، نقلها الإمام السبكي رحمه الله في كتابه الطبقات، قال: دخل على عثمان رضي الله عنه رجل كان قد لقي امرأة في الطريق فتأملها، فقال له عثمان رضي الله عنه: "يدخل أحدكم وفي عينيه أثر الزنا"، فقال الرجل: أوحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال عثمان: "لا وحي، ولكنها فراسة المؤمن"، إنها فراسة المؤمن، اطلع سيدنا عثمان رضي الله عنه على حقيقة ذلك الرجل، فقال: إنها فراسة المؤمن، والمؤمن ينظر بنور الله تعالى، والحقيقة إنما اطلع سيدنا عثمان على حقيقة ذاك الرجل تأديباً له وزجراً له عن القيام بهذا العمل الذي نهى الله عنه بقوله: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [النور:30].
mوأما سيدنا علي رضي الله عنه فقد تربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى" [أخرجه البخاري]، فكان علي رضي الله عنه من أهل الكشف ممن ينظرون بنور الله تعالى، وقد رُوي عنه أنه مر في الكوفة فقال: "هاهنا مناخ ركابهم، ها هنا موضع رحالهم، ها هنا مهراق دمهم، إنهم فتيةٌ من آل محمد صلى الله عليه وسلم تبكي عليهم الأرض والسماء".. وكانت هذه إشارة إلى زمن الفتنة الذي وقع لاحقاً بعد عهد سيدنا علي رضي الله عنه.
 
r قصص من السلف الصالح:
إذن.. أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم كانوا من أصحاب القلوب المنورة والمكاشفات والفراسة، وكذلك كان السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ورحم الله علماءنا وأسلافنا كالإمام الشافعي، والإمام أبي حنيفة، والإمام أحمد، والإمام مالك، والإمام أبي القاسم القشيري، والإمام الغزالي، والإمام بشر الحافي.. كلهم كانوا من أهل المكاشفة ومن أصحاب القلوب المنورة.
ـ يروى أن الإمام الشافعي والإمام محمد بن الحسن الشيباني [وهو من كبار تلاميذ الإمام أبي حنيفة] رحمهم الله تعالى، كانا بفناء الكعبة، وكان رجل على باب المسجد، فقال أحدهما: إني أراه نجاراً، وقال الثاني: بل أراه حداداً، فخرج أحد الحاضرين فسأله: ماذا تعمل؟ فقال: كنت نجاراً واليوم أعمل حداداً.. وما قالها الرجلان إلا بإلهام وكشف وفراسة، بما أوتي كل منهما من تقوى لله تعالى وعلم وصلاح..
ـ وذكر الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه (إحياء علوم الدين): عن أبي سعيد الخراز رحمه الله تعالى، قال: دخلت المسجد الحرام فرأيت فقيراً عليه ثياب بالية، فقلت في نفسي: هذا وأشباهه عالة على الناس، فناداني ذلك الرجل وقال لي: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ [البقرة:235]، فاستغفرت الله في سري.. فناداني الرجل مرة ثانية، وقال لي: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ [الشورى:25]، ثم غاب عني، ولم أره في المسجد.
فهذه كرامة ومكاشفة، وفراسة المؤمن تدل على القلوب المنورة التي تنظر بنور الله تعالى.
وذكر الإمام القشيري أبو القاسم رحمه الله تعالى في رسالته عن أحد أصحابه، قال: كنت جالساً في بيتي، فوقع لي أن جنيداً يقف على الباب، فنفيت ذلك عن قلبي، فتكرر هذا الوارد ثانية وثالثة، فخرجت، فإذا بالجنيد يقف على الباب، فلما رآني قال لي: لمَ لم تخرج من الخاطر الأول؟
أيهما كان من أهل المكاشفة: الأول أم الثاني؟ أم كلاهما؟
لا عجب في كل ما ذكرت من هذه الحوادث التي وردت؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسُّم". [رواه الهيثمي في مجمع الزوائد].
 
 صفِّ قلبك.. ترَ بنور الله..
في الختام، أقول: إن المرء المسلم إذا صفا قلبه فإنه ينظر بنور الله، فلا يقع بصره على كدر أو صافٍ إلا عرفه، لكن المقامات تختلف؛ فمنهم من يعرف أن هناك كدراً، لكنه لا يعرف ما هذا الكدر، ومنهم من يكون أعلى من هذا المقام فيعلم أصله كما حدث لسيدنا عثمان، فإنه لمّا تأمل حال ذاك الرجل الذي دخل عليه علم أنّه كان يتأمل في محاسن امرأة أجنبية لا تحل له. والإنسان المسلم المؤمن إذا ارتكب معصية فإنها تسبب له الكدر، وتنقط نقطة سوداء في قلبه، فتكون له كالران، كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين:14]، والله سبحانه نهى أن ينظر الإنسان إلى محاسن امرأة حتى لا تسود قلوبهم، بل إن غض البصر عمّا يحرم النظر إليه واجب، أما نظر الفجاءة الذي لا يتعمد فيه الإنسان أن ينظر إلى محاسن امرأة أجنبية فهو معفو عنه، كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة" [رواه الترمذي وأبو داود].
 فلا يستغرب أحدنا إذا غاب عنه نور البصيرة؛ لأنه لا يغض نظره عن المحرمات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل عين زانية" [رواه الترمذي]، ويقول في حديث آخر: "زنا العينين النظر" [رواه الهيثمي في مجمع الزوائد والألباني في صحيح الجامع]، ويقول في حديث ثالث: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه" [رواه الهيثمي في مجمع الزوائد].
إذن.. ما من مسلم ينظر إلى محارم امرأة، ثم يغض بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه؛ فالقلوب تختلف في صقلها وتنظيفها من أدران الذنوب المظلمة؛ فهي كالزجاج كلما صقل ازداد ثمنه وأصبحت الرؤية منه أكثر دقة وصفاءً..
فمن جد وجد، ومن سار على الطريق وصل، ومن بدأ بالمقدمة وصل إلى النتيجة، والبدايات تدل على النهايات، ومن أشرقت بدايته أشرقت نهايته.
أسأل الله تعالى أن ينور قلوبنا، وأن ينور بصائرنا، وبصيرتنا، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين.