wwww.risalaty.net


الأولياء وصفاتهم


بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان (المشرف العام)

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

        الأولياء فئة من خلق الله سبحانه وتعالى، اختصّها ربنا سبحانه بخصائص وميّزاتٍ في الدنيا والآخرة، وسمّاهم في القرآن الكريم "أولياء الله".

^ من هم الأولياء؟ وبم يتّصفون؟

        يقول الله سبحانه وتعالى:[]أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)[] سورة يونس. فسّر الإمام ابن كثير رحمه الله سبحانه وتعالى هذه الآيات فقال: "يُخبِر اللهُ تعالى أنَّ أولياءَه هم الذين آمنوا بالله وكانوا يتقون، فكل من كان تقياً كان لله ولياً، وهم  (الأولياء) لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون فيما يستقبلون من أهوال يوم القيامة، ولا يحزنون على ما وراءًهم من الدنيا ومَلَذَّاتِها ونعيمِها".

        الأولياء يتصفون بالإيمان بالله تعالى وتقواه، لذلك خصَّهم الله تعالى بالبشارة في الدنيا والآخرة؛ لأنه لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.

        الأولياء جمعُ "وَلِيّ"، والولي هو النَّصير الذي ينصر الله تعالى، وينصر دينَه وشريعته.

        وقال بعض العلماء: الولي هو القريب؛ فوليُّ الله تعالى قريبٌ منه سبحانه، وبما أنّ القُرْبَ من الله تعالى يستحيل أن يكون بالمكان وبالجهة، فإنَّ القُرْبَ هنا يعني استغراقَ القلبِ في معرفة الله تعالى واليقين به. فقلب المؤمن الولي لله تعالى مُستغرِقٌ بالله، يعيش مع الله، يحيا بالله، ينشغل بطاعة الله. إن سمع شيئاً سمع آيات الله، وإن نطقَ نطقَ بالثناء على الله وحَمْدِهِ وشُكْرِه، إن تحرَّكَ تحرّكَ في الدعوة إلى الله، وفي خدمة المسلمين، ورعاية الناس والإحسان إليهم، وإن اجتهد وبذل طاقته وجَّه هذه الطاقة وهذا الجهد في سبيل الله وطاعته.

        مَنْ كانت هذه صفاته وخصائصه كان في غاية القرب من الله سبحانه وتعالى، فهو إذاً وليٌّ لله تعالى، سواء تحقَّق هذا المعنى بمعنى القرب أو النصر، فكلا المعنَيَين يدل على أن الله سبحانه وتعالى قد اختصّ عبدَه الذي اتّصفَ بهذه الصفات وجعله ولياً له.

        كما قال الله تعالى:[]اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ[] سورة البقرة (257). فالولاية هنا من الله تعالى للذين آمنوا إنما تعني تقريبهم منه وعنايته بهم سبحانه. وهذا هو المعنى الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن رب العزة جل وعلا، حيث يقول ربنا سبحانه: (("من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب")). صحيح البخاري. فالله سبحانه وتعالى تولّى الدفاع بنفسه عن أوليائه، فأعلن الحرب والعداوة على كل من يؤذي ولياً من أوليائه عز وجل؛ لأن هؤلاء الأولياء كانوا من المؤمنين المتقين الذين يعرفون لله سبحانه وتعالى حقه، فيقفون عنده ولا يتجاوزون حدوده تعالى. فالله سبحانه وتعالى هو خصم من عادى أولياءه، والويل كل الويل لمن كان اللهُ تعالى خصمَه. من يستطيع أن يُخاصِم الله، أو أن يقف أمام هذه القوة الإلهية الربانية العظيمة التي لا حدود لها؟! فلْنتقِّ الله تعالى، ولا يجوز لنا أن نسيءَ لأي ولي من أولياء الله كائناً من كان هذا الإنسان، وقد أخفى الله تعالى أولياءه بين خلقه؛ حتى لا يزدري أحدٌ أحدا، فلا يجوز أن نعتدي على الناس، بل علينا أن نعتقد بهم الصَّلاح والخير والفضل، وخاصة في صحابة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم أفضل الأولياء، هم أولياء الله تعالى بعد الأنبياء، لا يحبّهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، مَن أحبَّهم أحبَّه الله، ومن أبغَضَهم أبغضه الله، وقد نهانا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نُسيءَ إلى صحابته رضوان الله تعالى عليهم، أو أن نؤذيهم، أو أن نشتمهم، أو أن نقع في عِرض أحدهم، أو أن نحكم عليهم ونجعل من أنفسنا قُضاةً على صحابته صلى الله عليه وسلم الذين كانوا من السابقين الأوّلين، من المهاجرين والأنصار، ومن كُتَّاب الوحي، ومن المنفقين أموالَهم في سبيل الله تعالى، ومن المجاهدين في المعارك والفتوحات والغزوات، أو من قادة المعارك وحاملي الرايات، فلا يجوز أن نسيء الظنَّ بهم، ولا أن نسيء القولَ في حقِّهم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: "اللهَ اللهَ في أصحابي!". سنن الترمذي. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ذُكِرَ أصحابي فأمسِكوا". مجمع الزوائد. أي لا تتكلموا في حقهم، لا تتخذوهم غرضاً، من يؤذيهم فإنه يؤذي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، والذي يؤذيهم ويؤذي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُوشِكُ أن يأخذه الله.

        فالولي هو عبد تولّى اللهَ تعالى بالطاعة والعبادة، اجتنب المعاصي، وترك المحرمات، وأعرض عن الملذات والشهوات حتى بلغ هذه العناية الربانية. وقال الله تعالى في وصف من دخل في هذا الإطار (إطار الولاية):[]...إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ...[] سورة الأنفال (34). فكل ولي لله تعالى تقي، وكل تقي ولي لله تعالى.

        والولي هو من تقرّب إلى الله تعالى بعد الفرائض بالنوافل، فكثرة النوافل إنما تكون ابتغاء القرب من الله، وابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى، ومَنْ أكثرَ من النوافل فإنما يُكثِر في قلبه نوراً وإشراقاً حتى يبلغ درجة محبة الله سبحانه وتعالى، وهذا سمّاه أهل الله "مقام المحبوبيّة". يقول ربنا سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (("وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحبَّ إلي مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه")) صحيح البخاري . هذا هو مقام المحبوبية الذي يبلغه الإنسان المؤمن الذي يتولى الله سبحانه وتعالى.

        باختصار: الولي هو كل مؤمن أدى الواجبات واجتنب المحرمات وأكثر من النوافل وتقرب إلى الله سبحانه وتعالى حتى بلغ درجة المحبوبية وهذا المقام العالي الذي أعدّه الله سبحانه وتعالى لأهل الكمال من خلقه كالملائكة، فالملائكة المقربون كلهم أولياء لله سبحانه وتعالى وإن كانوا على درجات، فليس كل الملائكة بمقام سيدنا جبريل عليه السلام، وكذلك البشر ليسوا جميعاً في مقام واحد، بل إن لهم مقامات، والصحابة الكرام ليسوا جميعاً في مقامٍ واحد، فهناك السابقون من المهاجرين، وهناك أول الناس إسلاماً، وهناك من أسلم ثم حسن إسلامه بعد مضي سنوات على إسلامه، والله سبحانه وتعالى أشار إلى هذا المعنى بقوله:[]وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[] سورة التوبة (100). فالناس مقامات، والأنبياء مقامات، والبشر مقامات، وأعلى مقامات الناس أن يبلغوا درجة الولاية لله سبحانه وتعالى.

^ الخصائص التي اختصّ الله سبحانه وتعالى بها أولياءه:

        يقول الله سبحانه وتعالى:[]أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[] سورة يونس (62).

        ورد في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بعض صفات الأولياء، ويمكن أن نجملها في أمور محدودة:

أ- إذا رُؤوا ذُكِرَ الله تعالى:

        فإذا رأيت رجلاً من أهل الصلاح يذكّرك بالله، يلهج لسانك بذكر الله تعالى؛ لأن هذا الرجل ممن ينطبق عليهم قول الله سبحانه وتعالى:[]...سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ...[] سورة الفتح (29). علامة الطاعة باديةٌ عليهم، وإن للطاعة نوراً وإشراقاً وحلاوة ولذة تبدو على أهل الطاعات، سُئل أحد الصالحين: "ما بال الذين يقومون الليل حِسانُ الوجوه؟". فقال لهم: "أولئك قومٌ خلَوا بالحبيب فألبَسَهم من نوره". كانوا طوال الليل مع الله سبحانه وتعالى في حالة ذكر، وسجود، وقيام، وركوع، وتلاوة، ودعاء واستغفار، فألبسهم الله تعالى من نور عبادته، وأذاقهم من حلاوة طاعته، فظهر ذلك على وجوههم نوراً وسِيْما وعلامة يعرفهم بها الناس، فإذا رأوهم ذكروا الله تعالى.

        وهذا ما نَلْحَظُهُ عندما نرى رجلاً صالحاً، مشرقَ الوجه، منوَّرَ الجبين، ملتزماً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أقبل عليك ذكرتَ الله تعالى.

ب- يتحابُّون في الله تعالى:

        وردت هذه الصفة في قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من عباد الله تعالى عباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء على عُلُوِّ منزلتهم ورِفعة شأنهم". قيل: من هم يا رسول الله؟ لعلّنا نحبّهم. فقال عليه الصلاة والسلام: "هم قومٌ تَحَابُّوا في الله من غير أموالٍ ولا أنساب، وجوههم نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس". ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى:[]أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[] سورة يونس (62). قومٌ تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب ولا مصالح يشتركون فيها، إنما كانت المحبة فيما بينهم خالصةً لوجه الله تعالى. تبدو الأنوار في وجوههم، لا يخافون ولا يحزنون؛ لأن الله تعالى أعطاهم صكَّ الأمان، فهم آمنون من العذاب، لأنهم حفظوا الله تعالى في دنياهم، فحفظهم في الدنيا والآخرة.

        إن هذه الصفة التي حدّدها النبي صلى الله عليه وسلم حدّد للأولياء هي صفة عظيمة، فهم يجتمعون على طاعة الله، ويتفرقون على طاعته، ويتعاونون على البر والتقوى، روحهم روحٌ إيمانية، مجالسهم مجالس ذكر ووعظ وتلاوة للقرآن. وهذا حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد كانوا في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وفي مجالسهم الخاصة لا يَفْتُرُون عن ذكر الله سبحانه وتعالى؛ طمعاً في بلوغ الدرجات العالية وارتقاء المنازل التي أعدّها الله تعالى لعباده الصالحين.

جـ- الإخلاص لله تعالى:

        وهي صفةٌ نادانا بها الحقُّ سبحانه وتعالى، وحضَّنا عليها في كثيرٍ من الآيات الكريمة، فقد قال تعالى:[]وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء...[] سورة البينة (5).

        والإخلاص هو أن نَخُصَّ بأعمالنا وجهَ الله تعالى، أن نُفرده في العمل ولا نشرك معه أحدا، لا في عبادة ولا طاعة سواء كانت قولية أو عملية، مادية أو معنوية، ألا يحول بيننا وبينه تعالى شيءٌ أبدا، ألا يشترك في عبادتنا له أي معنى من المعاني التي يهتم بها الناس؛ كالرياء والمفاخرة والمباهاة وحب الظهور ونحوِ ذلك. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إنَّ أغبطَ أوليائي عندي لَمؤمنٌ خفيفُ الحال، ذو حظٍّ من الصلاة (مواظب على أدائها)، أحسنَ عبادةَ ربه وأطاعه في السر، وكان غامضاً في الناس (ليس ذا شهرة أو حضور، بل هو من الأتقياء الأخفياء)، لا يُشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كَفافاً، فصبر على ذلك". ثم نقر عليه الصلاة والسلام على يده فقال: "عَجِلَت منيّته، قلَّت بواكيه، قلَّ تُراثه". لم يُقَدَّر له حياةٌ طويلة، وليس وراءه قبيلة أو ذريّة تبكي عليه، وليس له ميراث ضخم يقتتل ورثته من بعده عليه.

        وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه عن آل بيته عليه الصلاة والسلام أن رزقهم هو رزق كفاف، ليس لهم ولا عليهم.

        أيها الإخوة! من وصايا سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه لأصحابه وأتباعه ومَنْ حوله أن يكونوا من أهل الخَفاء، فقد قال لهم: "كونوا ينابيعَ العلم، مصابيحَ الهدى، أحلاسَ البيوت (كقطعة جامدة في البيت لا حركة لها)، سُرُجَ الليل (أي تسهرونه في طاعة الله تعالى)، جُدُدَ القلوب (قلوبكم ذاكرة لله سبحانه وتعالى)، خِلقانَ الثياب (ثيابكم متواضعة ليس أثواب شهرة ولا أبّهة)، تُعرَفون في السماء، وتَخْفَون على أهل الأرض".

        والنبي صلى الله عليه وسلم قال عن عباد الله الصالحين: "إن الله تعالى يحب العبد التقيَّ الغنيَّ الخفيَّ". صحيح مسلم. التقي: الذي يتقي الله سبحانه وتعالى، والغني: في نفسه فإنما الغنى غنى النفس، والخفي: الذي لا يحب الشهرة، واكتفى من حياته أنه يقدم طاعةً لله سبحانه وتعالى.

        جاء في صحيح مسلم أن عمر بن سعد انطلق إلى أبيه وهو في غنمٍ له خارجَ المدينة المنورة، فلما رآه أبوه قادماً من بعيد قال: "أعوذ بالله من شر هذا الراكب". فأتاه ولده فقال: "يا أبت! أنزلت في إبلك وغنمك، وتركت الناس يتنازعون المُلك بينهم؟!". فضرب سعدٌ في صدره وقال: ((اسكت! فلقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي")).

        أولياء الله تعالى يتعبّدون الله تعالى في الخفاء، لهم خصائص عامة وخصائص تميزهم، يشتركون مع المؤمنين بشكل عام في المحافظة على أداء الفرائض والاجتهاد في النوافل والحب في الله، والبغض قي الله، وأن يكونوا أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يؤدون الحقوق التي عليهم، ويتعاملون في العفو والصفح والمرحمة، ويختصون بصفات عن سائر الخلق، بأن يحرصوا على أن تكون أخلاقهم رفيعة، وألسنتهم عطرة رطبة بذكر الله تعالى، وأن يكونوا من أهل الخفاء في العمل الصالح، يعملون سرّاً؛ حتى لا تظهر أعمالهم أمام الناس فيُشار لهم بالبنان.

ء- لهم البشرى في الحياة الدنيا والآخرة:

        فمكانة الأولياء مكانة رفيعة، وتستحق منا أن نسعى إلى بلوغ هذه الرتبة، وإلى نَيل تلك الدرجة التي جعلها الله سبحانه وتعالى لهم أماناً من الخوف والحزن يوم القيامة، ولهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة. أما البشرى في الحياة الدنيا فقد سأل عنها سيدنا أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه، يقول: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن البشرى في الحياة الدنيا التي أعدّها الله لأوليائه فقال: "ما سألني أحدٌ عنها غيرك منذ أُنزِلتْ يا أبا الدرداء! هي الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو تُرى له". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لم يبقَ من مُبَشِّرات النبوّة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو تُرى له". صحيح مسلم. وهذا هو معنى قوله سبحانه وتعالى:[]لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[] سورة يونس (64). وقال بعض المفسرين: "البشرى هنا هي البشارة التي تبشِّر بها الملائكةُ المؤمنَ في الدنيا قُبيلَ نَزْعِ روحه". يتنزل عليه مَلَك الموت ويقول له: "السلام عليك وليَّ الله! إن الله يُقرِئكَ السلام". ثم يَنْزِعُ روحه وفق ما قال الله سبحانه وتعالى:[]الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ...[] سورة النحل (32).

        إذاً هناك تفسيران للبشرى في الحياة الدنيا: التفسير الأول هو الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له، والتفسير الثاني هي السلام من المَلَكِ يتنزّل على الإنسان المؤمن لحظةَ نزعه الروح.

هـ- اكتساب قوة من الله تعالى:

        يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن ربِّ العِزَّة جلّ وعلا: (("ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها[1]، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه")). تفسير ابن كثير.

        لذلك نستطيع القول: إن الولاية ليست حِكراً على أحد، ولا علامة مميِّزةً لطبقة معيّنة من الناس، ولا تُنال بوراثة، ولا بالأوسمة، بل إن الولايةَ رُتبةٌ ربّانيّة، تبدأ بتعظيم الله سبحانه وتعالى في القلب، وتُتَرجم هذه المحبة إلى واقع عملي وسلوكي، فيكسب صاحبها حُبَّ الله تعالى وولايته وقربه.

        والولاية لا تبيح لصاحبها فعلَ المحرّمات، ولا ترك الواجبات، ولا التهاون في المنهيّات التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها، وإن فعل الإنسان ذلك، فهو دليل على نقص ولايته لله تعالى، وعدم تعظيمة له عز وجل.

^ مَن أفضلُ الأولياء؟

        أفضل أولياء الله تعالى هم الرسل والأنبياء، ثم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يَلُوْنهم من العشرة المبشَّرين بالجنة، ثم أصحاب بدر... وهكذا تتمّ هذه السلسلة الذهبية في تعداد أولياء الله تعالى ممن كانت لهم منزلة عظيمة، وممن استحقّوا أن يُسَمَّوا بـ "أهل الله"، فإذا ذكرنا مصطلح "أهلَ الله" فإننا نقصد به الأولياء، أهل القرآن، وأهل الطاعة، وأهل العبادة.

       

^ كرامات يمنحها الله سبحانه وتعالى لأوليائه:

        عندما نتحدث عن الأولياء وماذا أعدَّ الله تعالى لهم من الكرم العظيم في الدنيا والآخرة، يمكن لنا أن نستعرض شيئاً من هذا الكرم الرباني الذي يمنحه سبحانه وتعالى لأوليائه، وخاصة أنه يعطيهم درجة عظيمة، ألا وهي: إجابة الدعاء. هذه المنزلة العظيمة من مُنِحَها فلْيعلمْ أن الله تعالى قد اختصّه وأكرمه بهذه المنحة في الدنيا.

        ومن خصائصهم أيضاً أن الله سبحانه وتعالى يُجري على أيديهم الكرامات (الخوارق للعادة) تأييداً وتكريماً لهم.

        من ذلك مثلاً ما كان يُروى عن سيدنا سعد بن أبي وقّاص رضي الله تعالى عنه، وهو أحد المبشَّرين بالجنة، فقد كان معروفاً بين الناس أنه مُجابُ الدعوة؛ إن دعا لشخصٍ أصابته تلك الدعوة، وإن دعا على شخص ظالم أو مشرك أو معتد أصابته الدعوة، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا لسعد بن أبي وقاص فقال: "اللهم أجبْ دعوته". فكانت دعوته مستجابة.

        قيس بن أبي حازم، كان من أكابر التابعين الذين التَقَوا بالصحابة رضي الله تعالى عنهم. ورد عنه قوله: "كنت في المدينة المنورة أمشي في أسواقها، فوجدت أناساً مجتمعين، وإذا برجل راكباً دابةً فيما بينهم، فجاء سعد بن أبي وقّاص وقال: ما هذا؟ قالوا: هذا رجل يشتم علي بن أبي طالب (رضي الله تعالى عنه وأرضاه). فتقدم إليه سيدنا سعد رضي الله عنه وقال: "يا هذا! علامَ تشتم علي بن أبي طالب؟! ألم تعلم أنه أول من أسلم؟! ألم تعلم أنه أول من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!".... وذكر من صفاته حتى وصل إلى قوله: ؟ألم تعلم أنه صِهر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ألم تعلم أنه صاحبُ رايةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته؟!؟ ثم استقبل سيدنا سعد القبلة ورفع يديه وقال: "اللهم إن كان هذا يشتم وليّاً من أوليائك فلا تفرّق هذا الجمع حتى تُرِيَهم قدرتك فيه". قال: فساخت بالرجل دابّته، فوقع على هامته على الأحجار الموجودة في الأرض، فانفلق دماغه ومات في أرضه. وهذا من جملة ما استجاب الله تعالى لسيدنا سعد بن أبي وقّاص رضي الله تعالى عنه.

        وليس ذلك غريباً على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة على أهل القرآن، فقد ورد عن سيدنا أنس رضي الله تعالى عنه أنّ أُسيد بن حُضير ورجلاً من الأنصار جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتّى ذهب من الليل ساعة، وكانت ليلة شديدة الظُّلمة، ثم خرجا وبيد كل منهما عصاه، فأضاءت عصا أحدهما حتى مَشَيَا في ضوئها، حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر، فمشا كل منهما في ضوء عصاه حتى وصل إلى أهله.

        هذا من جملة الكرامات التي أيّد الله سبحانه وتعالى بها كثيراً من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.

        ومما يُروى من الكرامات عن التابعين ما رُوِيَ عن يزيد بن الأسوَد رحمه الله تعالى، وهو من سادة التابعين في الشام. كان يصلي صلاة العشاء في دمشق، ويخرج إلى قرية يُقال لها "زِبْدِيْن"، فتضيء إبهامه اليمنى في الطريق، فلا يزال يمشي في ضوئها حتى يصل إلى تلك القرية. وهذا ما رواه الإمام الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء".

        كذلك تُروى كرامة لأبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى، وهو من سادة التابعين أيضاً. قالت له زوجته مرة: ليس عندنا دقيق، فقال لها: هل عندكِ شيء؟ قالت: ليس عندي إلا درهم بعتُ به غَزْلاً. قال: أعطِنيه وهاتي الجِراب. فدخل السوق، فأتاه سائل، وألحّ عليه في السؤال، فأعطاه الدرهم. وعاد إلى بيته وقد ملأ الجرابَ نشارة خشب مع تراب، وأتى وقلبه مرعوبٌ من زوجته. وضع الجراب في البيت ومضى، فلما ذهب فتحتْه، فإذا به دقيقٌ أبيض، فعجنت الدقيق وخبزت، وجاء أبو مسلم الخولاني إلى بيته ليلاً، فقدّمتْ له الخبز، فقال لها: من أين لنا هذا؟ فقالت: من الدقيق الذي اشتريتَه اليوم. فأكل أبو مسلم الخولاني من الخبز الذي أصله نشارة خشب وتراب، وبكى. هذه أيضاً نقلها الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء". وهكذا يبدو لنا كرامة الأولياء التي يؤيّدُ الله تعالى بها أولياءه.

        هناك قصة أوردها الإمام ابن السُّبكي في كتابه "طبقات الشافعية"، وهي التي سمّاها "كرامة المحاميد".

        يقول: كان ثلاثةٌ من العلماء في رحلة، وهم: "محمد بن جرير الطبري" وهو من الأعلام، و"محمد بن خُزيمة" وهو من المُحَدِّثين، و"محمد بن نصر المِرْوَزيّ" وهو من الفقهاء. كانوا في رحلة فأرمَلوا (جاعوا)، ولم يبق عندهم ما يَقوتهم وأضرَّ بهم الجوع. فاجتمعوا ليلةً في منزلٍ كانوا يأتون إليه، فاتّفق رأيُهم على أن يَسْتَهِموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على "محمد بن خزيمة"، فقال لأصحابه: "أمهِلوني حتى أتوضّاَ وأُصَلِّيَ صلاةً الاستخارة". فذهب يتوضّاً ودخل يصلي، فإذا هم بالشموع ورجلٍ من قِبَلِ الوالي يطرقون عليهم الباب، ففتحوا الباب، فقال الرجل: "أيكم محمد بن نصر المِروزي؟". فقال: أنا. فأعطاه صرةً فيها خمسون ديناراً. ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟ قال: أنا. فأعطاه صرة مثلَ أخيه. ثم قال: أيكم محمد بن خزيمة؟ قال: أنا. فأعطاه صرة مثلَ أخَويه. ثم قال لهم: إن الأمير كان قائلاً بالمساء (نائماً نومَ القيلولة)، فرأى في المنام من يقول له: "إن المحاميدَ قد طَوَوا كَشْحَهُم (بطونهم) جِياعا". فأَنْفَذَ إليكم هذه الصُّرَر، وأقسمَ عليكم إذا نَفِدَتْ فابعثوا إليه أحدَكم.

        وهكذا نرى أن الله سبحانه وتعالى هَيَّاً لهؤلاء العلماء الثلاثة مخرجاً وفرجاً من أزمتهم وضِيقِهم إكراماً لهم، وهذه من كرامات الأولياء التي يختصّ الله تعالى بها عباده وأتقياءه الأخفياء والصالحين.

        اللهم! اجعلنا من عبادك الأولياء الأتقياء الأخفياء، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 



[1] وجاء في رواية بعد قوله: ورجله التي يمشي بها: فبي يسمع  وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي.