wwww.risalaty.net


التداوي بالقرآن الكريم (3): التوكل على الله والتداوي


بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان (المشرف العام)

نتابع اليوم حديثنا عن التداوي بالقرآن الكريم وكنا قد أشرنا إلى أن الله جعل في القرآن هدى وشفاء للمؤمنين، قال تعالى: ((قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)) [فُصِّلت:44]، فالقرآن هداية للعقول الحائرة وللقلوب الشاردة التائهة عن الله سبحانه يردها ويهديها  إلى سواء السبيل، وفيه الشفاء من كل داء من الأمراض البدنية، وهذا ما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "خير الدواء القرآن". ففيه الدواء والشفاء وكل ما يحتاج إليه المؤمن من أمور دينه ودنياه.

اليوم نؤكد ما ختمنا به المقالة السابقة من أن جمهور علماء المسلمين يقولون بوجوب التداوي، فهو مشروع وواجب، وخاصة أننا وصلنا  إلى عصر فيه أمر التداوي من المسلمات، ولم يعد هناك من الأمراض ما يستعصي على الطب الحديث إلا ما شاء الله أن يجعله عبرة للناس أجمعين، كذلك المرض الخطير الذي هو ثمرة الشذوذ والانحراف، والذي يعرف في العالم بمرض الإيدز. فهذا المرض لم يكتشف له الأطباء أي نوع من العلاج، لذلك فهو يفتك بالناس نتيجة انحرافهم عن الفطرة السوية، وما سوى ذلك فقد وصل الطب الحديث  إلى علاج كل أنواع الأمراض المستعصية والمزمنة وأوجد لها الطب المحلي والعالمي أدوية وعلاجاً يناسب تلك الأمراض.

إذاً قال علماؤنا بأن التداوي مباح وواجب إذا كان هناك ضرورة ماسة لذلك.

والأخذ بالتداوي من باب الأخذ بالأسباب، فيجب علينا الأخذ بأسباب الشفاء، فنحن ندفع عن أنفسنا الهلاك والتلف باستخدام الدواء.

والتداوي ليس بينه وبين التوكل على الله أي تضاد، فلا يتنافى التداوي مع التوكل على الله لأن المؤمن عندما يتناول الدواء فإنه يعتقد بقلبه أن الشفاء لا يكون إلا بأمر الله وإذنه وتقديره، فالشافي هو الله، والمعافي هو الله، والمداوي هو الله، ((وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)) [الشعراء:80].

فالأدوية لا تنفع بذاتها بل بما قدره الله تعالى فيها، والدليل على ذلك أنه كم من مريض انقلب دواؤه داء له، أي اشتد مرضه نتيجة الدواء الذي يتعاطاه أو خطأ فيه، فالدواء بحد ذاته ليس هو المؤثر، بل المؤثر هو الله تعالى.

فالعلماء الذين يقولون بترك التداوي ربما يعود الأمر عندهم  إلى عصرهم حيث كان التداوي بوسائل بدائية وطرق تقليدية لم تصل  إلى مستوى يثق به الناس، بل إن أغلب الأدوية في عصورهم كانت ظنية لذلك تردد عن بعض العلماء القول بعدم وجوب الدواء لأنه لا ينفع.

وقد ورد عن بعض السلف أنهم تركوا التداوي وهذا ليس لعلمهم أن هذا المرض لم يصل فيه الطب  إلى دواء ناجح أو غير ذلك، بل لأن قلوبهم تعلقت بالله الشافي الحقيقي والمعافي المؤثر، فإذا أخذوا الدواء أو لم يأخذوه فهم على صلة بالله، لكن أقوالهم ليست بالضرورة أن تكون هي الحجة، إنما الحجة بالنسبة لنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عباد الله تداووا فإن الله تعالى لم ينزل داء إلا وأنزل له دواء".

وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو في كماله وصدق توكله على الله لم يقدح في توكله تعاطيه للأسباب، فهو في المعارك كلها التي خاضها كان يلبس المغفر، الخوذة، التي تقيه من السهام وضرب السيوف، ويوم الخندق حفر خندقاً حول المدينة، فهذه كلها أسباب، وتعاطي رسول الله صلى الله عليه وسلم للأسباب لا ينافي صدق توكله على الله تعالى.

فقد كان إذا جاع أكل وإذا عطش شرب، وكان يدخر لنسائه في بيوتهم أقواتهم، إذاً هذه الأسباب التي يتعاطاها لا تؤثر في صدق توكله على الله، كذلك المؤمن عندما يتعاطى الأسباب بأخذ الدواء وبأن يسمع قول الطبيب الذي شخص له المرض ووصف له الدواء فإنه يعتقد أن هذا الدواء هو سبب في الشفاء وليس هو الشفاء بذاته.

ولقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التداوي بالأشياء الحسية كالأدوية والعقاقير والأعشاب وغير ذلك، وبالأشياء المعنوية أيضاً كالدعاء والرقية الشرعية التي رقاه بها سيدنا جبريل عليه السلام، والتي كان يرقي بها أصحابه كقوله للمريض: "أعيذك بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة"، فهذه رقية شرعية رقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وبعض أولاده وأحفاده فلذلك دلنا عليها كنوع من الأدوية والعلاج المعنوي الروحي.

أيضاً الدعاء، فهو أنفع الأدوية، خاصة الإلحاح فيه، والله يحب العبد الملحاح، الذي يلح عليه في الدعاء، فالدعاء هو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه وقد يمنع نزوله ويخففه، وقد جاء في الحديث: "لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر"، فالقضاء قد يُخَفَّف ويرده الله عن عباده بسر الدعاء، لأن الدعاء والقضاء يصطرعان طالما العبد يدعو الله فإن الله يلطف بعباده ويخفف عنهم من قضائه ويستجيب دعاءهم، فيكون الدعاء سبباً من الأسباب التي تخفف عن العبد الأمراض والأوجاع التي قدرها الله على عبده.

إذاً ما فهمه جمهور أهل العلم من القول بوجوب التداوي هو القول المعتمد عند عامة المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أرشدنا  إلى ضرورة التداوي.

 

t               التوكل على الله والتداوي:

إن التوكل الحقيقي يشمل الأمرين معاً: الاعتماد على الله والتفويض إليه في تعاطي الأسباب، ولا ينبغي للإنسان أن يقول أنا أتوكل على الله ولا آكل ولا أشرب ولا أتزوج ولا أتسبب ولا أبيع ولا أشتري...

هذا الأمر خطأ في الاعتقاد، فتعاطي الأسباب لا ينافي التوكل، بل هو من صدق التوكل، وهذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً"، فذهاب الطير وعودتها في حالة من الشبع إنما هو حركة تعتمد على القيا بالسبب مع التوكل على الله المسبب.

إذاً النبي أوضح لنا أن التداوي من التوكل، وأرشدنا عندما قالوا له: أرأيت رقى نسترقي بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟، فقال: "هي من قدر الله"، أي هي من قدر الله إذا دفع الله بها ضراً أو قضاء قدره على عبده، فإن الذي قدر عليك القضاء الأول هو الذي قدر عليك القضاء الثاني.

لما بلغ سيدنا عمر رضي الله عنه الشام بلغه أن فيها وباء الطاعون، فانصرف الناس فرجع بهم وقال: "نفر من قدر الله  إلى قدر الله"، ثم أبلغه عبد الرحمن بن عوف أن النبي قال: "فإذا سمعتم به في بلد فلا تقدموا عليه".

ونحن في عصرنا، عندما نسمع أن وباء أو مرضاً مستشرياً أو معدياً انتشر في بلد ما علينا ألا نذهب إليه وأن نحتاط قدر الإمكان حذراً من الوقوع في المرض واتباعاً للأسباب التي أمرنا بها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم". فإذا ابتلي الإنسان بالمرض ولم يتداو، فصحيح الجسم خير من المريض، لأنه يقدر على أن يقوم بالطاعات، ويأخذ عليها الحسنات، فإذا مرض

وقعد عن فعلها فإن الله يكتب له من الأجر ما كان يفعله وهو صحيح.

وللحديث صلة إن شاء الله.. لبيان التداوي في السنة النبوية الشريفة...