wwww.risalaty.net


التداوي بالقرآن الكريم (1): حكم التداوي بشكل عام


بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان (المشرف العام)

 

إن التداوي بالقرآن الكريم أمرٌ ثابتٌ في الشريعة لا يُمكن إنكاره، لأنه أصبح معلوماً من الدين بالضرورة، ولا يحدث إلا بإذن الله، ومن أنكر معلوماً عن القرآن فقد خرج من ملة الإسلام والعياذ بالله.

والله تحدث عن القرآن ((قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)) [فُصِّلت:44]، فالقرآن العظيم أعظم دواء، وهو خير الدواء.

ولبيان هذه المسألة نبدأ أولاً ببيان حكم التداوي من الأراض بشكل عام...

 

t         أولاً: حكم التداوي من الأمراض بشكل عام:

للعلماء في هذه المسألة آراء متعددة:

G هناك من قال: تركه أفضل، أي اترك الدواء واتكل على الله، وعللوا قولهم بأن ترك الدوار تفضلاً واختياراً لما اختاره الله، ورضاً وتسليماً بما قدر الله.

وذهب  إلى هذا الأمر بعض العلماء ممن يحتج بقولهم كأحمد بن حنبل فقد كان يعتقد أن التوكل على الله خير من التداوي وشرب الدواء.

واستدلوا على قولهم بحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عرضت علي الأمم فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط، والنبي يمر ليس معه أحد، حتى رفع لي سواد عظيم، قلتُ: ما هذا؟ أمتي هذه؟، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل: انظر  إلى الأفق. فإذا سواد عظيم يملأ الأفق، ثم قيل لي: ها هنا وها هنا وها هنا في آفاق السماء، فإذا هي مكتظة بالناس، فإذا سواد منه ملأ الأفق، قيل: هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفاً بغير حساب". ثم دخل ولم يبين لهم من هؤلاء، فأفاض القوم وقالوا: نحن الذين آمنا بالله واتبعنا رسوله فنحن هم، أو أولادنا الذين وُلدوا في الإسلام فإنا ولدنا في الجاهلية، فبلغ هذا الكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وقال: "هم الذين لا يسترقوا ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون"، فقال عكاشة: أنا منهم يا رسول الله؟ فقال: "نعم"، فقام آخر فقال: أمنهم أنا يا رسول الله؟ فقال: "سبقك بها عكاشة".

فهذا الحديث فيه دعوة  إلى التوكل على الله بصدق، فالاسترقاء هو التداوي بالرقية، والكي هو آخر الدواء كما يعرف في الطب القديم.

وهناك حديث يروى عن عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أُريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف، فادعُ الله لي، فقال: "إن شئت صبرتِ ولك الجنة، وإن شئتِ دعوت الله أن يعافيك". فقالت: بل أصبر، ولكن ادعُ الله ألا أتكشف، فدعا الله لها..

فالشاهد أنها قنعت بما قسم الله لها وفوضت أمرها له.

لذلك قال هؤلاء العلماء أنه لا حاجة للتداوي بل عليك أن تتوكل على الله بصدق وتفوض أمرك إليه.

A وهناك فئة من أهل العلم قالوا: لا يصح التداوي أصلاً، لأن المرض أمرٌ قدره الله تعالى على الإنسان. وهؤلاء غالوا في الرأي قليلاً. وقالوا: إن الولاية لله لا تتم إلا إذا رضي العبد بجميع ما نزل به من البلاء من السماء، فالواجب على المؤمن حسب قولهم أن يترك التداوي اعتصاماً بالله تعالى وتوكلاً وثقةً به فإن الله قد علم أيام المرض وأيام الصحة، فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته لم يقدروا، أي أن المرض مقدر علينا، فلا يصح أن نتداوى لأن أيام المرض مقدرة علينا، واستشهدوا بقوله تعالى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)) [الحديد:22]. فما دام كل شيء بقضاء وقدر فلا حاجة للتداوي.

ويستدلون بما أخرج عن المغيرة بن شعبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل". أي لم يكن صادق التوكل على الله، فهذا الحديث يؤيد قولهم.

لكن هذا القول عليه احتراز: فمن استرقى أو اكتوى معتمداً على الرقية نفسها أو على الكي نفسه لا على الله سبحانه، أي تداوى معتمداً على الدواء، فقد برئ من التوكل وفي حديث آخر: "فقد أشرك بالله سبحانه وتعالى".

إذاً لقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من يعتمد على الدواء فقط دون الله تعالى فقد وقع في الإثم، والدليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قد كوى أُبياً يوم الأحزاب على أكحله لما رُمي بسهم، فقصد النبي بالكي هنا الأخذ بالأسباب، فالتداوي سبب وليس هو الفاعل بالشفاء، إنما الفاعل بالشفاء هو الله سبحانه وتعالى.

B أما قول جمهور أهل العلم: التداوي مشروع ومدعو إليه، لأن القرآن والسنة ورد فيهما حثٌّ على ذلك، لأن فيه حفظاً للنفس والبدن وهو أحد المقاصد الكلية من التشريع، أن يحفظ الإنسان نفسه وبدنه ألا يصيبهما سوء.

لكنهم فصلوا القول:

ü   فقال بعضهم: التداوي مشروع لكنه ليس بواجب.

ü وجمهور أهل العلم أنه مباح، وهو ما ذهب إليه كثير من علماء الحنفية والمالكية، وقالوا: إذا خشي الإنسان على نفسه التلف والمرض بتركه التداوي فإنه حينئذ يجب عليه.

ü أما علماؤنا المعاصرون، فقد أجمع علماء مجمع الفقه الإسلامي بوجوب التداوي إذا كان تركه يؤدي  إلى تلف النفس أو البدن أو أحد الأعضاء أو يؤدي  إلى العجز، أو كان المرض ينتقل  إلى غيره كالأمراض السارية و المعدية التي إن لم يتعالج منها الإنسان ويتداوى يمكن أن يؤذي أولاده أو أقرب الناس إليه فينتقل إليهم الضرر.

ويؤخذ من هذا القول أنه إذا تيقن نفع الدواء وكان المرض مما يخشى منه التلف وجب التداوي مطلقاً.

ويدخل في حكم ما إذا أصيب الإنسان بنزيف دموي حاد أو أصابه جرح فهو مضطر  إلى وقف النزيف أو خياطة تلك الجروح التي تؤدي  إلى هلاك الجسم أو ربما يحتاج  إلى بتر عضو تالف يمكن أن يؤدي  إلى تلف سائر الأعضاء فيما لو بقي.

فهذه الأشياء مما يجب فيها التداوي وهي مما يجزم الأطباء بضرورة علاجه على الفور فيجب على الإنسان المسلم أن يبادر  إلى التداوي والعلاج وأخذ كل الاحتياطات التي تمنعه من الوقوع بأسوأ من الحالة التي هو عليها.

وقد ورد بالأدلة القطعية من القرآن ما يدل على مشروعية التداوي كقوله تعالى عن العسل: ((فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ)) [النحل:96]. فهذا دليل على جواز التداوي بشرب الدواء وأول ذلك العسل، وهو منصوص عليه في القرآن الكريم.

وقد جاء في الحديث عن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بحرام"، فأمرنا رسول الله بالتداوي بشرط ألا يكون بمحرم كشرب الخمر، فالله لم يجعل دواءنا فيما حُرِّم علينا.

وفي حديث آخر يروى عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى؟، فقال: "نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء إلا داءً واحداً" قالواك وما هو؟ فقال: "الهرم"، وهو كبر السن والشيخوخة.

وهذا منصوص عليه في القرآن بمراحل عمر الإنسان، فالإنسان يبدأ طفلاً صغيراً ثم يشتد عوده فيصبح شاباً قوياً ثم يدخل في مرحلة الهرم والشيخوخة وهذه سنة الله في الكون.

وفي حديث آخر عن أم قيس بنت محصن رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عليكم بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة أشفية، يُستَعطُّ به من العذرة ويُلدُّ به من ذات الجَنْب".

وقد شرح العلماء الحديث فقالوا: العود الهندي هو خشب طيب الرائحة يؤتى به من بلاد الهند، قابضٌ فيه مرارة يسيرة، وقشره كأنه جلد مواشي.

سبعة أشفية أي سبعة أدوية.

وأما قوله يُستعطُّ به من العذرة، فالعذرة وجعٌ في الحلق يهيج من الدم، وقيل قرحةٌ تخرج بين الأنف والحلق، ولعله ما يسمى في زماننا بالتهاب اللوزتين.

وأما قوله يُلدُّ به من ذات الجنب، فيُلدُّ من اللدود، وهو ما يُصبُّ في أحد جانبي الفم من الدواء.

وأما ذات الجنب فهي ورم الغشاء المستبطن للأضلاع.

إذاً أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنواع من الأدوية التي إذا تعاطاها الإنسان يمكن أن يستشفى بإذن الله تعالى.

وقد جاء في الحديث أيضاً دلالة على مشروعية التداوي من خلال احتجام النبي صلى الله عليه وسلم فكان يتداوى بالحجامة.

كذلك عندما سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن علمها بالطب قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسقم عند آخر عمره فكانت تقدم إليه وفود العرب من كل وجه فينعت له الإنعات فكنت أعالجه"، أي يوصف له الدواء.

فجمهور أهل العلم يقول بوجوب التداوي واستحبابه لورود الأمر بذلك، وقال بعض أهل العلم: "الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام".

والأخذ بالتداوي من باب الأخذ بالأسباب، فعندما نتداوى نعتقد أنه سبب، وليس الشفاء مستقراً فيه، إنما الشفاء بيد الله كدفع الجوع بالطعام، وكدفع العطش بالشراب.

ونعلم من هذا أن التداوي لا ينافي التوكل على الله لأن المسلم عندما يتداوى يعتقد بقلبه أن الشفاء لا يكون إلا بإذن الله وتقديره، وأن الأدوية لا تنفع بذاتها بل بما قدره الله تعالى فيها.

Eفخلاصة ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من القدماء والمعاصرين هو أن التداوي إنما هو مشروع ومستحب ومباح، ولا ينافي التوكل على الله.

 

وللحديث صلة في بيان حكم التداوي بالقرآن الكريم خاصة....