الجمعة الأخيرة في رمضان
بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على هذا النبيّ الكريم وعلى آله وصحبه الغُرّ الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله: أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله وأحثكم على طاعاته والتمسك بكتابه والالتزام بسنة نبيّه ومنهاجه إلى يوم الدين.
يقول تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
ها نحن في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، وقلوب المسلمين على فراقه حزينة، مضى رمضانُ ليكون شاهدًا للمؤمن بطاعته وصالح عمله وعبادته وإحسانه، وشاهدًا على المقصر بتقصيره وتفريطه وغفلته وعصيانه، أحسن في رمضان أقوامٌ ففازوا وسبقوا، وأساء فيه آخرون فرجعوا بالخيبة والخسران.
من كانت حاله بعد رمضان أحسن من حاله منها قبله، مقبلاً على الخير، حريصًا على الطاعة، مواظبًا على الجمع والجماعات، مفارقًا للمعاصي والسيئات، فهذه أَمارةُ قبول عمله إن شاء الله تعالى، ومن كانت حالُه بعد رمضان كحالِهِ قبلَها فهو وإن أقبل على الله في رمضان، إلا أنه سرعان ما نكص على عقبه ونقض ما أبرم مع ربه من عهود ومواثيق، فتراه يهجر الطاعات، ويضيع الصلوات، ويتَّبعُ الشهوات، ولا يصون سمعَه وبصره وجوارحه عن المحرمات، فليعلم هذا وأمثاله أن ربَّ الشهور واحد، وهو في كل الأزمان مطلع على أعمال عباده ومُشاهِد.
كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقَبوله، ويخافون من ردِّهِ، وهؤلاء هم الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهُم وَجِلة، روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (كونوا لقَبول العمل أشدَّ اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: ((إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ؟)) [المائدة:27].
ولقد كانوا ـ رحمهم الله ـ يدعون الله ستة أشهر أن يبلِّغَهم رمضان، ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبَّله منهم".
سألَتْ عائشةُ رضي الله عنها الصديقةُ بنت الصديق رسولَ الله عن قوله سبحانه: ((وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)) أهُمُ الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر؟ قال: ((لا يا ابنةَ الصِّدِّيق، ولكنهم الذين يصلّون ويصومون ويتصدّقون ويخافون أن لا يُتقَبَّل منهم).
أيها الإخوة المؤمنون: صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر يومًا فقال: ((آمين، آمين، آمين))، ثم قال: ((أتاني جبريل فقال: رغِمَ أنفُ من أدرك رمضانَ فلم يُغْفَرْ له، قل: آمين، فقلتُ: آمين)).
وجاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تُطيقون فإن الله لا يَـمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وإن أحبَّ الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قَلَّ " .
وفي صحيح مسلم من حديث عائشة قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته)) . أي داوم عليه وحافظ عليه.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي عمرة سفيان بن عبد الله الثقفـي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ((قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدَك)). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قل آمنتُ بالله ثم استقم)) ، قل آمنت بالله ثم استقم، استجابةً لقوله جل وعلا: " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
قرأها يوماً على المنبر سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا، استقاموا على منهج الله فلم يروغوا روَغَانَ الثعالب، والاستقامة هي المداومة والثبات على الطاعة.
هاهو رمضان مضى وانقضى ، فمن كان يعبد الله في رمضان فإن رمضان فات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ باقٍ لا يموت .
فلنشدَّ العزيمة على الثبات على نوع من العبادة نحافظ عليه، حتى لا نكونَ ممن ضَرَبَ الله تعالى لهم المثلَ في القرآن الكريم بقوله تعالى :"وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً"[النحل: الآية92]، ذكر المفسرون في تفسيرها: أن عجوزاً في مكة كانت تغزل الصوف في أول النهار، حتى إذا أوشكت على إتمام غزلها آخر النهار نقضت غزلهَا وأفسدته، ثم عادت إلى الغزل والنقض مرة أخرى، وهكذا كان دأبها وشأنها أبداً.
فحذّر الله تعالى من خلال هذه الآية المؤمنين من التشبه بصنيع هذه المرأة، وذلك بإفساد أعمالهم الصالحة بأعمال سيئة تنقضُها وتُذْهِبُ بركتَها.
وروي عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: يا عطاء ، ألا أُريكَ امرأةٍ من أهل الجنة ؟ فأراني حبشيةً صفراءَ، فقال: "هذه أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن بي هذه الموتة - يعني الجنون - فادع الله أن يعافيني. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن شئتِ دعوتُ اللهَ فعافاكِ، وإن شئتِ صبرتِ واحتسبتِ ولكِ الجنة "، فاختارت الصبر والجنة .
فلنحذر أن تكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، لنحذر أن نكون مثل امرأة تغزل طول يومها غزلاً قويًا محكماً ثم تنقضه أنكاثاً، أي: تُفسِدُه بعد إحكامه، فقال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا ..).
وأما المداومة على العمل بعد رمضان : فقد سُئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : كيف كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: " كان عملُهُ ديمةً، وأيُّكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع ". رواه مسلم.
وروى مسلم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل ".
وختاماً: لا تنس- أخي المسلم- صيامَ ستٍ من شوال ، فإن من الأعمال الصالحة التي تُشرع لنا بعد رمضان صيامَ ستةِ أيام من شوال ، لما جاء عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : ((من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فذلك صيام الدهر)) رواه مسلم.
اللهم سلم لنا رمضان، وتسلَّمه منا متقبلاً، وبارك لنا فيما بقي منه، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات:
0 |
|
|
مرات
القراءة:
15707 |
|
|
تاريخ
النشر: 25/07/2014 |
|
|
|
|
|
|