::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> كلمة المشرف

 

 

هم الأمة ... واقع و علاج

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان  

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
           كُنْ عن همـومك مُعرِضا      وكِلِ الأمـورَ إلـى القـضا
           وابْشِـرْ بخـيـرٍ عاجـلٍ       تنسـى به  ما قـد مضـى
           فلَـرُبَّ أمـرٍ مُسـخِطٍٍ        لك فـي  عواقبـه  رضـا
           ولربمـا اتسـع المـضيـ        ـقُ وربمـا ضـاق  الفضا
           اللهُ يفـعـلُ مـا يشــا       ءُ فلا تكـنْ مُتَـعَـرِّضـا
           والله عــوّدك الجـميـ       ـلَ، فقسْ على ما قد مضى
طبيعة الحياة الدنيا امتلاؤها بالهموم:
طبيعة الحياة الدنيا أنها مليئة بالهموم، والمحن، والمصائب، والابتلاءات؛ لأن هذه الدار هي دار الشدة، ودار القسوة والضنك, أما الدار الآخرة (دار البقاء) فإن الله - سبحانه وتعالى - قد ميزها، وخاصة الجنة؛ لأنه ليس فيها هم، ولا غم، ولا تعب، ولا نصب. يقول الله - سبحانه وتعالى - عن أهل الجنة في الجنة:[]لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ[] سورة الحجر (48). فأهل الجنة لا تتكدر نفوسهم، ولا تنكسر خواطرهم ولا حتى بالكلمة. يقول تعالى:[]لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)[] سورة الواقعة.
إذاً طبيعة الحياة الدنيا أن فيها معاناة، وفيها شدة، وقسوة يواجهها الإنسان في ظروفه المتعددة، وأحواله المتنوعة، وهذا ما أشار إليه الله سبحانه وتعالى بقوله:[]لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ[] سورة البلد (4). فالإنسان دائماً حزين, يحزن على ما مضى, يندم على ما فات, يهتم بما يستقبل, ويغتمّ بما سيأتي عليه, وهكذا شأن كل إنسان.
أنواع الهموم:
إذا كانت قلوب الناس تتفاوت في الهم والغم كثرةً وقلة, واستمراراً وانقطاعاً, فإن ذلك بحسب الإيمان, أو بحسب الفسوق والعصيان؛ لأن القلوب على نوعين؛ قلبٌ معلّق بعرش الرحمن, فيه النور، والحياة، والفرح، والبشر، والسرور، والبهجة، والخير. وقلبٌ معلّق بالشيطان, فيه الضيق، والظلمة، والوحشة، والحزن، والغم، والهم، والمصائب، وكل ما فيه كدر للعيش. والناس أيضاً يتفاوتون في الهموم بتفاوت أحوالهم، وتفاوت مسؤولياتهم وتطلعاتهم، حتى هذه الهموم تتفاوت بين الناس وتتنوع, فهناك هموم مشروعة، وهناك هموم غير مشروعة:
أ- هموم الأمة الإسلامية:
من الهموم: هموم ذات شأن ودلالات طيبة يهتم بها الإنسان. منها هموم الأمة الإسلامية، كأن يهتم الإنسان بما يجري في شرق الأرض وغربها؛ عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم". رواه البيهقي. من ذلك هموم الإنسان العالم الذي يهتم بالإرشاد، والدعوة، وحل المعضلات التي يحتاج المسلمون إليها في سائر أمورهم, من الهموم الهموم العالية ذات المكانة الكبيرة كهم إمام المسلمين وقائدهم بمشكلات رعيته، كما كان الشأن عند سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذ كان يجهز الجيش في الصلاة، ويحمل همّ الدواب أن تتعثر وهي في أرض العراق، أثناء صلاته كان يدبر ويفكر كيف يهيئ الجيوش التي تفتح البلاد، وتعلن فيها راية الإسلام، وهو الذي كان يقول: "لو أن شاة في أرض العراق تعثرت لخشيت أن يسأل عنها عمر: لِمَ لَمْ تعبّد لها الطريق؟". كذلك عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - لما أُوكل إليه مهمة اختيار خليفة المسلمين بعد استشهاد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لم يكتحل بنوم حتى شاور المسلمين كلهم ممن كان من أهل المشورة، بما فيهم العجائز، وهذا ما أورده الإمام البخاري رحمه الله تعالى.
ب- هموم ناتجة عن المعاصي والآثام:
من الهموم ما يكون ناشئا عن المعاصي والذنوب؛ كالهموم التي تصيب الإنسان المذنب بعد ارتكابه للمعصية، فإنه يعيش حالة الهم والغم حتى يشعر بأن الله - تعالى - قد تاب عليه، وغفر له ذنبه.
جـ- الهموم الناتجة عن الظلم:
من الهموم ما يكون بسبب الظلم, ظلم الناس لبعضهم، ظلم القوي للضعيف، وظلم الغني للفقير، وخاصة ظلم الأقارب كما قال الشاعر:
وظلـمُ ذَوي القُربى أشدُّ مَضاضةً       على النفسِ من وَقْعِ الحُسامِ المهندِ
ء- هموم أخرى:
من الهموم الهموم التي تحصل للإنسان نتيجة الأمراض المزمنة، أو نتيجة عقوق الأولاد، أو نتيجة اعوجاج الزوج بالنسبة للمرأة، أو نتيجة تسلط الزوج على امرأته. من الهموم ما يكون بسبب التفكير في المستقبل، والخوف من المجهول؛ كأن يخاف الأب مستقبل أولاده، وأن يخاف مستقبل ذريته من بعده، وهكذا تتنوع الهموم، ويعيش الإنسان أسيرَ هذه الهموم، وكأنه هو القادر على تدبيرها وتيسيرها.
علينا أن نخرج من هذه الأزمات (أزمات الهموم و الغموم) التي يعاني منها كثير من الناس، فلا يكاد يجتمع شخصان إلا وتجد أحدهما يبث همومه للآخر، يشكو همّ ماله، وعمله، وزوجه، وأولاده، وتجارته وأحواله كلها، كأنما يفكر بأن الحياة اسودت في وجهه.
الحل هو تفويض الأمر لله تعالى:
الحل بالنسبة لهؤلاء الناس أن نعود في تفويض أمورنا لله سبحانه وتعالى، ولنتذكر قول القائل:
لا تـدبِّـرْ لـكَ أمـرا          فذوو التدبيــرِ هَلْـكَى
فَــوِّضِ الأمـرَ إليـه           فهـو أَولـى بكَ مـنكَ
وأفوض أمري إلى الله أي أسلم أموري كلها, وأستسلم, وأرضى بقضاء الله سبحانه وتعالى. وكما قلنا في بداية الحديث:كُنْ عن همومك مُعرِضا، وكِلِ الأمورَ إلى القضا، سلّم أمورك إلى الله سبحانه وتعالى، واستبشر بخير عاجل من الله تنسى به ما قد مضى، فلربما يأتيك أمرٌ ما؛ يكون من حيث الظاهر مُسخطاً لك ومزعجاً، لكن عاقبته يكون فيها الرضا والخير، ويكون فيها القناعة، وربما تضيق عليك الأمور، فإذا بك تجد متّسعاً، وفرجاً عظيماً كما قيل: "اشتدي أزمة تنفرجي". فان الأمور بقدر ما تشتد وتتعاظم فإنها يبدو فيها أبوابٌ للفرج وأبواب ... لكي تتفتح هذه الأبواب المغلقة.
علاج الهموم:
كيف نعالج الهموم؟ وفق ما جاء في القرآن والسنة وحيلة السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم.
أ- التّسلّح بالإيمان القوي المقترن بالعمل الصالح:
لا بد لنا لكي نخرج من همومنا أولاً وقبل كل شيء من أن نتسلح بالإيمان العظيم، الإيمان الكامل المقترن بالعمل الصالح. الله - سبحانه وتعالى - يقول:[]مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[] سورة النحل (97). الخطاب هنا يشمل الفئتين؛ فئة الذكور، وفئة الإناث، لكن الله - تعالى - اشترط للحياة الطيبة والآمنة الإيمانَ. أن نؤمن بالله سبحانه وتعالى إيماناً صحيحاً، هذا الإيمان يثمر عملاً صالحاً يصلح القلوب والأخلاق، ويكون صالحاً للإنسان في الدنيا والآخرة. وهؤلاء الذين يتصفون بصفة الإيمان الكامل يكرمهم الله - سبحانه وتعالى - بكل ما فيه خير في الدنيا والآخرة، وهذا المعنى هو الذي عبّر عنه سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له". صحيح مسلم. إن أحوال المؤمن كلها على الإطلاق تثمر الخير، وتأتي بالخير.
ب- الاعتقاد بأن الهم يعقبه تكفير للذنوب ورفع للدرجات:
هذه الهموم، والغموم، والضيق، والشدة التي تعتري الإنسان يعقبها تكفير للذنوب، وتمحيص للقلوب، ورفع للدرجات، فما من إنسان يصاب بهم، أو غم، أو ضيق، أو عسر، أو شدة إلا أعقب ذلك فرج عاجل من الله سبحانه وتعالى، وتكفير لذنوبه، ورفع لدرجاته، وإعلاء لهمته، وتثبيت للإيمان في قلبه. وردَ في صحيح البخاري رحمه الله تعالى، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يُشاكُها إلا كفر الله بها من خطاياه". صحيح البخاري. الإمام مسلم أورد رواية أخرى لهذا الحديث يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة، أو حطّ عنه بها خطيئة". صحيح مسلم. فإذا أصيب الإنسان بأيّ نوع من أنواع المصائب، والهموم، والمحن، والابتلاءات، والشدائد، والضيق، والعسر الذي يعترض الإنسان في حياته اليومية فإن له بذلك أجراً عظيماً، يكفر به سيئاته، وإن كان من أهل الصلاح والتقوى يرفع الله درجاته، ويزيده إيماناً، وتثبيتاً، وصلاحاً. وهذا المعنى نجده واضحاً في كلام سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما يقول: "إذا أراد الله عز وجل بعبد خيراً عجل له عقوبة ذنبه، وإذا أراد بعبد شراً أمسك عليه بذنبه حتى يوفى به يوم القيامة كأنه عير". مسند أحمد. أي إن الذي يكفِّر عنه ذنوبه هو الذي يعيش الهموم والأحزان، فهذه الأحزان والهموم تكون تعجيلاً له في الدنيا، يرى من الصعوبات والشدائد ما لا يراه يوم القيامة إن شاء الله تعالى.
إذاً.. فليعلم المهموم أن ما يصيبه من الأذى النفسي نتيجة للهم لا يذهب سُدى أبداً، بل هو نافع في تكثير حسناته، وتكفير سيئاته. وليعلم الإنسان المسلم أنه لولا المصائب لوردنا يوم القيامة مفلسين كما ذكر أحد السلف الصالح رضي الله عنهم. لذلك كان بعض السلف يفرح بالبلاء إذا ابتلي أو امتحن من الله سبحانه وتعالى، كما يفرح أحدنا بالرخاء، يفرح فرحاً عظيماً؛ لأنه يرى أن هذا الابتلاء إنما هو تكفير لسيئاته ورفع لدرجاته. فالمؤمن الذي يعتقد اعتقاداً جازماً بأن هذه الهموم والأحزان تكفّر له سيئاته، سيتقبلها قبولاً حسناً، ويرضى بما قسم الله سبحانه وتعالى له.
جـ- الاعتقاد بفناء الدنيا وأن الهموم إلى زوال:
أيها الإخوة القراء! تهون الهموم وتسهل علينا إذا علمنا أن هذه الدنيا فانية، ومتاعها قليل، وما فيها من لذة فهي مكدرة، ولا تصفو لأحد، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن أعطت يسيراً منعت كثيراً، والمؤمن في هذه الدنيا كأنه في سجن كبير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر". صحيح مسلم. الدنيا سجن كبير يعيش فيه المؤمن، فيها ابتلاءات، وفيها شدائد، وفيها محن، وهي كذلك فيها من النصب، والأذى، والشقاء، والعناء ما لا يُحْصِهِ أحد. لذلك فإن المؤمن يستريح عندما يفارق الدنيا، ويتخلص منها وهذا المعنى حدثنا عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما مرت به جنازة فقال: "مستريح ومستراح منه. قالوا: يا رسول الله! ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد، والبلاد، والشجر، والدواب". صحيح مسلم. المستريح هو المؤمن صاحب الأعمال الصالحة، إذا انتقل من هذه الدنيا الفانية، وتخلص من همومها، وأحزانها، ومصائبها فإنه يلقى جنة عرضها السماوات والأرض، أعدها الله - سبحانه وتعالى - له، وزينها في أجمل صورة، وأبهى حلة. وأما العبد الفاجر فإذا مات فإنه يستريح منه العباد، وتستريح منه البلاد، حتى الجمادات ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان الفاجر مفسد كما ذكر الله سبحانه وتعالى:[]ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ...[] سورة الروم (41). فساد في البر، وفي البحر، وفي السماء، وفي الأرض، وفي كل نواحي الحياة، فالعبد الفاجر إذا مات وانتقل عن الدنيا فإن الناس يستريحون منه، وإنه يُعاقَب يوم القيامة على أعماله المفسدة التي عملها في هذه الدنيا الفانية.
ء- التّأسّي بالأنبياء الذين هم أشد الناس بلاء:
أيها الإخوة القراء! ماذا وجد المسلمون اليوم من الهموم والأحزان كما وجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم؟ لقد تحدى القوم فيما مضى من الأمم السابقة أنبياءهم بكل صنوف وألوان التحدي، لذلك لما جاء سيدنا سعد - رضي الله عنه - يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل[1]، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صُلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتُلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة". صحيح ابن حبان. إذا الأنبياء هم أشد الناس بلاء في الدنيا، والمرء يبتلى على قدر دينه، والله - سبحانه وتعالى - إذا أحب عبداً ابتلاه وامتحنه، فإن كان مؤمناً صبر، ورضي بما قدر عليه الله سبحانه وتعالى، فأسوتنا وقدوتنا هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإذا وقع أحدنا في مصيبة، أو في هم، أو في حزن ما، فليتذكر أن الأنبياء من قبل عُودوا، وأُوذوا، وضُربوا، واعتُدي عليهم من قِبَل أقوامهم، فصبروا ولم يستسلموا، وظلوا يدافعون عن كتاب الله، وعن سنتهم التي جاؤوا بها، ولنا خير مثال بسنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرته التي فيها أنواع وأنواع من المحن والابتلاءات التي تعرض لها النبي عليه الصلاة والسلام، فصبر، وتحمل، كل ذلك في سبيل الله، وطمعاً في نيل الثواب العظيم، ورضا الله عز وجل. إذاً.. أمر مهم أن نجعل قدوتنا وأسوتنا في همومنا ومصائبنا قلّت أو كثرت, صغرت أم عظمت, الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
هـ- أن نجعل الآخرة ورضا الله - تعالى - أكبر همومنا:
الشيء الأهم في أنواع الخروج من أزماتنا وهمومنا ومشكلاتنا أن نجعل الآخرة همّنا, أن يكون الهم الكبير الذي نعيشه هو الآخرة، ورضا الله سبحانه وتعالى. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كانت الآخرة همه جمع الله له شمله، وجعل غناه بين عينيه، وأتته الدنيا وهي راغمة". أخرجه الطبراني في الكبير. أي إن الذي يسعى إلى رضا الله سبحانه وتعالى، فيعمل لليوم الآخر، ويعمل للقاء الله سبحانه وتعالى، فإن أول النتائج المثمرة التي يجنيها أن الله - تعالى - يجعل غناه في قلبه؛ لأن كثيراً من الناس في هذه الدنيا إنما يسعون وراء الغنى والثراء, والغنى كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام - إنما هو غنى النفس، ليس الغنى عن كثرة الجاه والعرض، ليس الغنى جاهاً، أو مالاً، أو سلطاناً، أو عزاً، إنما الغنى غنى النفس، أي عفتها، وطهارتها، ونقاؤها، واستغناؤها بالله سبحانه وتعالى، واكتفاؤها بما قسم الله - تعالى - لها. وأما أولئك الجشعون، والطامعون بكل ما قسم لهم، وما قسم لغيرهم، فهؤلاء لن يصلوا إلى هذه الرتبة أبداً؛ لأن همهم مُنصبّ على الدنيا، وليس على الآخرة. من كانت الآخرة همه لا يعيش حالة الشتات، ولا حالة الاضطراب، وأتته الدنيا وهي راغمة، أي ما قسم له، وما قدر له من الدنيا سيأتيه صاغراً بين يديه، ولا يحتاج أن يتكلف، أو أن يجتهد، أو أن يتعب في تحصيله. وأما من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، حتى لو كان غنياً، وهذا واقع كثير من الناس اليوم؛ عندهم أموال، وربما امتلكوا الملايين، لكنهم يعيشون فقراء، ويموتون أغنياء، يعيشون مهمومين بجمع المال، يعيشون مشتتين في أسرهم، مشتتين في علاقاتهم الاجتماعية؛ لأنهم يسعون متكالبين على الدنيا، وحطامها، وزينتها، وزخرفها، وكل ذلك زائل، وفانٍ، لا قيمة له.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت الدنيا همه فرق الله شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له". أخرجه الطبراني في الكبير. أي لا يأتيه إلا المقسوم, ومن رضي بما قسم الله تعالى له فإنه يعيش حياة آمنة ومطمئنة. ورحم الله من قال:
دع الحرص على الدنيا        وفي العـيش فلا تطمع
ولا تجـمع من المـال         فلا تدري  لمن تجـمع
فإن الـرزق مقسـوم        وسـوء الظن لا ينفع
الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - له مقولة رائعة في هذا المجال: "إذا أصبح العبد وأمسى، وليس هم له إلا الله وحده تحمل الله عنه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه وأغمه، وفرغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أمسى وأصبح والدنيا همه حمله الله همومها، وغمومها، وأنكادها، ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحوش في خدمة غيره". وهذا الكلام للإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - يعبر عن واقع كثير من الناس الذين ينشغلون عن طاعة الله - تعالى - بطاعة الناس، وينشغلون عن ذكر الله - تعالى - بذكر الناس، وينشغلون عن الاهتمام بالباقي بالاهتمام بالزائل، يهتمون بما هو زائل، وبما هو فانْ. إذاً أيها الإخوة! لنجعل الآخرة همَّنا الأوحد، وهمنا الأكبر؛ حتى يفرّج الله عنا همومنا الدنيوية، ويجمع لنا شملنا، ويجعل غنانا في قلبنا، وتأتينا الدنيا صاغرة مرغمة بإذن الله تعالى.
و- الإكثار من الصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
هناك نوع من الأدوية هو علاج عظيم، لا يمكن أن يستغني عنه إنسان مسلم، بل على كثيرٍ من المسلمين أن يعودوا إلى هذا العلاج، وهو سهلٌ ويسير، ولا يكلفنا مزيدَ عناءٍ، ولا مشقة، ألا وهو الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعظم ما يفرّج الله به الهموم هو الإكثار من الصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وجاء هذا في حديث رواه الإمام الترمذي - رحمه الله تعالى - عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه قال: "قلت يا رسول الله! إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما شئت. قال: قلت الربع. قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك. قلت: النصف قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك. قال: قلت فالثلثين. قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك. قلت: أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذاً تُكفى همك، ويُغفر لك ذنبك". سنن الترمذي. مجرّد الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكون سبباً في تفريج الهموم، وتنفيس الكروب، وذهاب الأحزان، والهموم، والمصائب، وتكون سبباً في مغفرة الذنوب، ومن منا لا يعيش هماً يومياً؟ إن كان على صعيد أسرته، أو على صعيد عمله، أو على صعيد حياته بشكل عام. إذاً هذا هو الدواء الذي ينبغي أن نحافظ عليه، وأن نحرص عليه، حتى يفرّج الله عنا همومنا، وينفّس عنا كروبنا، ويقضي لنا حاجاتنا، ويغفر لنا ذنوبنا، ونلقى الله - تعالى - وهو راضٍ عنا إن شاء الله.
ز- صدق التوكل على الله:
هناك شيء مهم جداً، ألا وهو حسن التوكل على الله, صدق التوكل على الله, وتفويض الأمر إليه، والاستسلام لحكمه وأمره وقضائه. فالقلب متى اعتمد على الله، وتوكل عليه، ولم يستسلم للأوهام، ولا تملكته الخَيالات السيئة, القلب متى وثق بالله، وطمع في فضله, اندفعت عنه بذلك الهموم والغموم، وزالت عنه كثيرٌ من الأسقام القلبية والجسدية, وحصل للقلب من السرور، والانشراح، والثبات، واليقين ما لا يمكن أن يوصف، أو أن يعبر عنه, والمعافى من عافاه الله، ووفقه لجهاد نفسه لتحصيل الأسباب التي تنفع في تقوية القلب، والتي تدفع الاضطراب والقلق عن القلب، والله - سبحانه وتعالى - قال:[]...وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ...[] سورة الطلاق (3). أي كافيه، أو يكفيه، وفائدة الكفاية هنا أنها تزيل عن الإنسان هموم دينه ودنياه، أي إن الله - تعالى - كافيه جميع ما يهمه من أمر الدين، أو من أمور الدنيا. لأن المتوكل على الله - تعالى - قوي القلب، لا تؤثر فيه الأوهام، ولا تزعجه الحوادث؛ لأنه يعلم أن هذه الأشياء إنما هي دليلٌ على ضعف النفس، ودليلٌ على الخوف، ودليلٌ على الخَوَر, وقويّ القلب، الواثق بالله تعالى، لا تؤثر فيه هذه المعاني أبداً، بل إنه يثق بالله تعالى، ويطمئن لوعده، فيزول همه، ويذهب قلقه، ويتبدل عسره يسراً، وترحه فرحاً، وخوفه أمناً، وهكذا يعيش الإنسان المتوكل على الله - تعالى - في كل شؤونه توكلاًَ صادقاً، كما تتوكل الطير على ربها عندما تخرج من عشها، باحثة عن رزقها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو توكلون على الله حق توكله لرزقكم الله كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً".صحيح ابن حبان. أي تذهب من عشها جائعة، وتعود إليه وقد شبعت وحملت معها طعام أولادها وصغارها. إذاً.. من يتوكل على الله فهو حسبه، أي يكفيه جميع أمور دينه ودنياه، ولا ننسى أن المؤمن إذا أصابته الهموم، وفزع إلى الصلاة، فإن همومه تزول بإذن الله تعالى؛ لأن الله تعالى أمرنا أن تستعين بالصبر والصلاة عندما قال:[]وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ[] سورة البقرة (45). فإذا جمعنا بين الأمرين؛ صلينا، وصبرنا على ما أصابنا ترتاح قلوبنا، وحسبنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يقول: "يا بلال! أقم الصلاة، أرحنا بها". سنن أبي داود. أي قم، وأذن، وأقم الصلاة، فإن القلوب ترتاح بإقامة الصلاة، ولنعلم أنه بعد العسر يكون اليسر، وبعد الضيق يأتي الفرج، ولنحسن الظن بالله تعالى، إنه جاعلٌ لكل ضيق مخرجا، ولكل عسر يسرا إن شاء الله تعالى، وكلما استحكم الضيق، وازدادت الكروب قرب الفرج، وقرب المخرج بإذن الله تعالى. والله - تعالى - قال:[]فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)[] سورة الشرح. والنبي - عليه الصلاة والسلام - يقول: "لن يغلب عسرٌ يسرين". صحيح البخاري. إذاً.. كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يبشّر أصحابه أنه مع العسر يكون اليسر، ومع الضيق يأتي الفرج، ومع الشدة يكون العون من الله سبحانه وتعالى، وذلك في وصيته لابن عباس - رضي الله عنهما - قال له: "واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا". مسند أحمد.
ح- الإقبال على الله - تعالى - بالدعاء:
ولا يفوتنا أن الدعاء، والإقبال على الله - سبحانه وتعالى - بأنواع الدعاء نافع جداً؛ فالدعاء منه ما هو وقاية لعدم الوقوع في الهموم، ومنه ما هو علاج لهذه الهموم، أما الوقاية فإنه يجب على كل مسلم أن يلجأ إلى الله تعالى، ويدعوه متضرعا إليه حال الرخاء أن يعيذه من الهموم، وأن يباعد بينه وبينها كما كان يفعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في ما رواه سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه، حيث قال: "فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل، فكنت أسمعه كثيراً يقول: اللهم! إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال". صحيح البخاري. هذا الدعاء كان يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل به هم، وهذا الدعاء يكون وقاية من الهموم، والأحزان، والمصائب. إذاً.. علينا أن نستثمر مثل هذه الأنواع من الأدعية في الصباح والمساء؛ حتى يعيذنا الله - تعالى - من الهموم، فهذا الدعاء تحديداً مفيد لدفع الهم قبل وقوعه، من هذه الأدعية أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم! أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر". صحيح مسلم. ومن أعظم الأدعية في ذهاب الهم، والغم، والإتيان بعده بالفرج: الدعاء الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يردده ويقول: "ما قال عبد قط إذا أصابه هم، أو حزن: اللهم! إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسالك بكل اسم هو لك، سميّت به نفسك، أو أنزلته في كتابه، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي, إلا أذهب الله همه، وأبدله مكان حزنه فرحاً. قالوا: يا رسول الله! ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات؟ قال: أجل. ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن". صحيح ابن حبان. أي هذا النوع من الدعاء ينبغي لمن سمعه أن يتعلمه، وأن يحفظه، وأن يردده عند الوقوع في الهم. ومن الأدعية التي يذهب بها الهم، والغم، والكرب ما ورد عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات، ورب الأرض، ورب العرش الكريم". صحيح البخاري. وأما سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه، فكان يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر قال: "يا حي! يا قيوم! برحمتك أستغيث". سنن الترمذي. وأما أسماء بنت عميس - رضي الله عنها - فقالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أعلّمك كلمات تقولينهن عند الكرب أو في الكرب: "الله ربي لا أشرك به شيئاً". صحيح ابن حبان. يقولها الإنسان عند الكرب، أو في أثناء الكرب، فيُذهب الله عنه كربه، وهمه، وحزنه. كذلك هناك دعوات تسمى دعوات المكروب، علّمها النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بقوله: "دعوات المكروب: اللهم! رحمتَك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت". صحيح ابن حبان. فإذا دعا العبد بهذه الأدعية بقلب حاضر، ونية صادقة، واجتهد في تحصيل أسباب الإجابة، حقق الله له دعاءه وما رجاه، وعمل له، وانقلب همه فرجاً وسروراً، ونفّس الله عنه حزنه وهمه.
دعاء:
نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يفرج عنا وعن المهمومين، وأن ينفس الله عنا كربنا وعن المكروبين، وأن يجعل لنا من كل ضيق فرجاً، ومن كل عسر يسراً، اللهم فارج الهم، كاشف الغم، مجيب دعوة المضطرين، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، أنت ترحمنا، اللهم فارحمنا رحمة واسعة تغننا بها عن رحمة من سواك، اللهم فرج الهم عنا وعن المهمومين، ونفس الكرب عنا وعن المكروبين، واقض الدين عنا وعن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وعافِ مبتلانا ومبتلى المسلمين أجمعين، برحمتك يا رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
 
*******************************************************
 
 
 


[1] أي الأحسن، فالأحسن.

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 5798

 تاريخ النشر: 25/12/2012

2012-12-26

اللهم آمين...جزاك الله خيراً.

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1825

: - عدد زوار اليوم

7405759

: - عدد الزوار الكلي
[ 83 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan