::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> خطب الجمعة

 

 

عليكم بالسكينة

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان  

 

خطبة الجمعة بتاريخ 18 / 11 / 2011
في جامع العثمان بدمشق
 
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. اللهم صل وسلم وبارك على هذا النبي الكريم وعلى آله وصحبه الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.. فيا عباد ، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله تعالى، وأحثكم على طاعته والتمسك بكتابه والالتزام بسنة نبيه ومنهاجه إلى يوم الدين.
يقول الله تبارك وتعالى في القران الكريم مخاطباً سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بصيغة الاستفهام التقريري: ((ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك * فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً * فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب)) [سورة الانشراح: 1-8].
أيها الإخوة المؤمنون، إن الله سبحانه وتعالى امتنَّ على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فشرح له صدره ورفع له ذكره، وليس هناك أعظم من هذه المنحة و المنة، أن يشرح الله صدرك للإيمان، وأن يشرح الله صدرك لاتباع النبي عليه الصلاة والسلام، وأن يشرح الله صدرك لاتباع الحق والهدى والنور، وأن يشرح الله صدرك لكل ما فيه الخير، وأن يشرح الله لك صدرك لكي تبتعد عن الضلال والزيغ والهلاك وتتبع طريق الهداية والنور.
إن الله تعالى شرح صدر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان في كل أحواله متبعاً للحق. وها هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبرهن عملياً عن حال شرح الصدر أي عن حالة طمأنينة القلب وعن حالة استقرار القلب، عندما أفاض سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات.
ونحن نشهد هذه الأيام عودة الحجاج إلى بلادهم بعد أن أكرمهم سبحانه وتعالى فطافوا حول البيت وسعوا بين الصفا والمروة، وقبلوا الحجر الأسود وشربوا من ماء زمزم، وأفاضوا من عرفة إلى مزدلفة، ورموا الجمار في منى وباتوا فيها ثلاث ليالٍ، ثم ودعوا الكعبة المشرفة والبيت الحرام.
تعالوا بنا أيها الإخوة لنعود إلى التاريخ ونرى كيف شرح الله صدر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما أفاض من يوم عرفة:
® وقف النبي عليه الصلاة والسلام على بغلته في سفح جبل الرحمة عند الصخرات الكبيرات ودعا الله تعالى رافعا يديه إلى السماء حتى غربت الشمس، ومن حوله أصحابه وقد بلغ عددهم ما يزيد على مئة ألف من أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم. ثم أفاضوا وأفاض النبي عليه الصلاة والسلام معهم، فما كان من النبي عليه الصلاة والسلام إلا أن لاحظ ازدحاماً واندفاعاً وتصارعاً أيهم يسبق الآخر في نفرته وإفاضته من عرفة، فما كان منه إلا أن قال: "أيها الناس السكينة السكينة عليكم بالسكينة" ، وهكذا بدأ الناس يخففون من ازدحامهم ومن تصارعهم واضطراب حركتهم عند إفاضتهم من أرض عرفة. ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام في دعوته إلى السكينة إنما يعكس حال شرح صدره وطمأنينة قلبه واستقرار نفسه في كل أموره: في علاقته مع الله كان يعيش معنى السكينة والطمأنينة، في صلته مع أصحابه كان يعيش معهم الطمأنينة والسكينة، في علاقته مع الكافرين، مع المشركين، كان قلبه عليه الصلاة والسلام مطمئناً بالله تعالى ساكناً لا يضطرب. ولم يطرأ على قلبه عليه الصلاة والسلام أي نوع من أنواع الشك أو الحيرة أو الاضطراب، إنما كان واثقاً بالله سبحانه وتعالى، وكان قلبه صادق الإيمان بالله سبحانه وتعالى ولذلك كان يأمر أصحابه بالسكينة.
® السكينة أيها الإخوة كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: هي طمأنينة القلب التي يودعها الله تعالى في قلب عبده المؤمن، طمأنينة في القلب، وقار في النفس، يظهر أثر هذه الطمأنينة والسكينة والوقار على حركات العبد و على تصرفاته ، على صلته سواء كان مع نفسه، مع إخوانه، مع أقاربه، مع الناس كما كان عليه حال النبي صلى الله عليه وسلم.
 فالنبي عليه الصلاة والسلام حتى في غزواته كان قلبه مطمئناً بالله، تعلوه السكينة والوقار وليس أدل على ذلك من أنه طلب من الجيش في إحدى الفترات أن يتقدموا فتقدموا، ثم قال لعائشة: يا عائشة تعالي حتى أسابقك.. أي طمأنينة هذه في قلب النبي عليه الصلاة والسلام؟ ليس في قلبه -وهو في غزوة- ليس في قلبه اضطراب ولا قلق ولا شك، فسابقها عليه الصلاة والسلام فسبقته. وفي رحلة أخرى (في غزوة أخرى) قال النبي عليه الصلاة والسلام للجيش تقدموا فتقدموا ثم قال لعائشة: يا عائشة تعالي حتى أسابقك، فسابقها فسبقها. فقال لها: هذه بتلك يا عائشة. وكانت عائشة قد سمنت وحملت اللحم ولم تكن كما هو عهدها الأول بزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
® كان قلب النبي عليه الصلاة والسلام مليئاً بالطمأنينة، فها هو ذا يلمح أخا أنس بن مالك فيقول له وقد علاه الحزن: "يا أبا عمير ما فعل النُغَيْر؟" وأبو عمير هذا أخ لأنس بن مالك لأمه وكان أصغر منه، وكان أخو أنس له طائر صغير يقال له طائر النغر يلعب به فإذا به يجده يوماً وقد علاه الحزن والكآبة لأن طائره قد مات فأصبح النبي عليه الصلاة والسلام يداعبه ويقول له "يا أبا عمير" – يكنيه ويصغر كنيته بداعي التحبب.. ما فعل النغير.
هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام، هكذا كان عندما كان يقسم الغنائم، بعد غزوة هوازن إذا به يلمح بين الناس أمه من الرضاعة فيترك توزيع الغنائم ويخلع عباءته ويضعها أرضاً ويقول لها تقدمي ويجلسها عليها ، ويقول إنها أمي التي أرضعتني. أيُّ طمأنينة هذه كانت تعلو قلب النبي عليه الصلاة والسلام في كل أحواله فلم يكن يغضب إلا لله، ولم يكن يثور إلا إذا انتهكت محارم الله، فكان عليه الصلاة والسلام يخطب في الناس كأنه منذر جيش: إذا خطب فيهم يحمسهم، إذا خطب فيهم يحركهم كأنه منذر جيش يقول: صبحكم أو مساكم.
ـ أيها الإخوة: السكينة هي شعار النبي عليه الصلاة والسلام وقد أمر بها الحجاج.. وما أكثر ما يحصل في الحج من حالات اضطراب وقلق، ونزق وغضب ويرتفع الصراخ ويضيق حال الناس ذرعاً في الازدحام وكثرة العدد ويتناسون دعوة النبي عليه الصلاة والسلام للسكينة.
إنها السكينة، طمأنينة القلب التي وردت في القرآن الكريم في مواضع كثيرة: أبرزها في خمسة مواضع:
1- قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة والحديث عن سيدنا موسى عليه السلام وقومه: ((وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) [البقرة:248].
والتابوت: شيء يشبه الصندوق من الخشب أو من العاج كانوا يصطحبونه معهم في غزواتهم، في أسفارهم، وكان ذلك التابوت يبعث الطمأنينة في قلوبهم.
2- وفي سورة التوبة يوم حنين – الغزوة التي اضطربت فيها قلوب المؤمنين وظن المؤمنين أنهم سينهزمون، فأنزل الله عليهم السكينة: قال الله تعالى: ((وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ)) نزلت السكينة فقال تعالى : ((ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ)) [التوبة:26].
3- وفي سورة التوبة أيضاً يتحدث الله تعالى عن هجرة النبي عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة وقد بلغ الأمر ما بلغ من محاولة للسيطرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقبض عليه حياً أو ميتاً، واضطرب قلب سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، ويصف لنا القرآن الكريم ما حدث فيقول الله تعالى : ((إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) [التوبة:40] فأنزل الله سكينته عليه أي الطمأنينة.. اطمأن قلبه، ارتاح قلب رسول الله وقلب أبو بكر ولم يعد هناك اضطراب في قلب أبي بكر رضي الله عنه.
4- وفي سورة الفتح يقول الله تعالى وذلك في يوم الحديبية وهو يوم شاق على المسلمين ((هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)) [الفتح:4].. استقرت قلوبهم واطمأنت إلى قرار رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن أخذهم حالة من الغضب والشدة والقلق: "إنه ربي ولن يضيّعني" لن يضيعه. هذه ثقة قلب النبي بالله سبحانه وتعالى.
5- وفي سورة الفتح عندما بايع المؤمنون البيعة التي تسمى بيعة الشجرة: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)) [الفتح:18]
ـ أيها الإخوة: هذه هي السكينة في قلبه عليه الصلاة والسلام وقد بدت لها مظاهر كثيرة ومن فضائل هذه السكينة انشراح صدره عليه الصلاة والسلام بمنة من الله "ألم نشرح لك صدرك؟". هذا الانشراح في الصدر، هذه الطمأنينة في القلب انعكست على حياة النبي عليه الصلاة والسلام في كل أحواله .
° فنجده يصبر على المخالفين له، من يخالفه، من يقف ضده، من يكون رأيه غير رأيه.. يقف النبي عليه الصلاة والسلام معه صابراً يوسع صدره يستمع إليهم، إلى آرائهم... فتح لهم مجالاً للتعبير عن رأيهم فقالوا ما قالوا، فقال لهم أصحابه "ادع الله عليهم- انتقم منهم يا رسول الله" فقال: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً"
هكذا تكون المعاملة مع من يقف ضدك، أن توسع له صدرك، أن تدعو له بالهداية، أن تسأل الله له الطمأنينة، لا أن تنتقم منه.
° وفي موقف آخر، صبر النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وعلى جفاة الأعراف الذين آذوه فلما استغرب بعض أصحابه من ذلك قال لهم: "لقد أوذي موسى أكثر من ذلك فصبر" أوذي موسى عليه السلام من قومه إيذاءً شديداً وهو ما قال عنه الله تعالى في القرآن الكريم : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا)) [الأحزاب:69].
° وكذلك ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بربه، لم يجزع نبينا عليه الصلاة والسلام من حدوث الشدائد واستمرارها إنما كان واثقاً بالله. انظروا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو في غزوة الخندق، يحفر الخندق وهو يقول: "الله أكبر فتحت بلاد الشام الله أكبر فتحت بلاد اليمن".. ويبشر أصحابه الجائعين الذين يربطون على بطونهم الحجر والحجرين والثلاثة بكنوز كسرى وقيصر. حتى قال المنافقون: ألا تعجبون من محمد! يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق، وأن نغنم كنوز فارس والروم، ونحن هنا لا يأمن أحدنا أن يذهب إلى الغائط، والله لمَا يعدنا إلا غروراً!، أي إنه يذهب لقضاء حاجة وهو خائف مضطرب، فمن أين جاءت هذه الثقة ؟ ومن أين جاءت هذه الطمانينة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم؟ إنه سر انشراح الصدر وسر سكينة القلب التي عمرت قلب النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال الله تعالى له: فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً. فقال عليه الصلاة والسلام : "لن يغلب عُسرٍ يُسْرَيْن" .
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يفرج عنا وأن يقضي حوائجنا وأن يلهمنا السكينة وأن يسدل علينا الطمأنينة وأن يجعلنا ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول هذا القول وأستغفر الله.

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 4867

 تاريخ النشر: 22/11/2011

2011-11-22

علا صباغ

جزاك الله خيراً.. أسأل الله أن يشرح صدورنا وينور قلوبنا.. وينزل علينا السكينة والطمأنينة.. اللهم آمين.

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 716

: - عدد زوار اليوم

7395595

: - عدد الزوار الكلي
[ 66 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan