::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات المشرف

 

 

الغضب .. أسبابه وعلاجه (4)

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان (المشرف العام)  

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

        ^ مشكلات صحية ونفسية تنتج عن الغضب:

ثبت علميًّا أن الغضب كصورة من صور الانفعال النفسي يؤثر على قلب الشخص الذي يغضب تأثيرَ العَدْو أو الجري على القلب الذي تتسارع دقاته وتزداد نسبة ضخ الدم منه وإليه. وانفعالُ الغضب يزيد من عدد مرات انقباضاته في الدقيقة الواحدة، فيضاعف بذلك كمية الدماء التي يدفعها القلب، أو التي يضخها إلى الأوعية الدموية مع كل واحدة من هذه الانقباضات أو النبضات، وهذا بالتالي يجهد القلب لأنه يكلفه زيادة عمله عن معدلات العمل الذي يفترض أن يؤديه بصفة عادية ومنتظمة، أو ظروف معينة، إلا أن العدو أو الجري في إجهاده للقلب لا يستمر طويلاً؛ لأن المرء يمكن أن يتوقف عن الجري إن هو أراد ذلك، أما في الغضب فلا يستطيع الإنسان أن يسيطر على غضبه، لا سيما إن كان قد اعتاد على عدم التحكم في مشاعره.

وقد لُوحِظَ أن الإنسان الذي اعتاد على الغضب يصاب بارتفاع ضغط الدم، وهذا ما يثبته الأطباء دائماً، كما أنه يزيد عن معدله الطبيعي في دقاته ونبضاته، حيث إن قلب الإنسان الغَضوب يضطر إلى أن يدفع كمية من الدماء الزائدة عن المعتاد المطلوب، كما أن شرايينه الدقيقة تتصلب جدرانها وتفقد مرونتها وقدرتها على الاتساع لكي تستطيع أن تمرر أو تسمح بمرور أو سريان تلك الكمية من الدماء الزائدة التي يضخها هذا القلب المنفعل، ولهذا يرتفع الضغط عند الغضب الشديد. أما الآثار النفسية والاجتماعية التي تنجم عن الغضب في العلاقات بين الناس فإنها من الأنواع الخطيرة جداً، والتي تهدم العلاقة الإنسانية وتقوّض من الترابط بين الناس.

ومما هو جدير بالذكر أن العلماء كانوا يعتقدون في الماضي أن الغضب الصريح ليس له أضرار، وأن الغضب المكبوت فقط هو المسؤول عن كثير من الأمراض، ولكن دراسة أمريكية حديثة قدّمت تفسيراً جديداً لتأثير هذين النوعين من الغضب مؤدّاه أن الكبت أو التعبير الصريح للغضب يؤديان إلى الأضرار الصحية نفسها، وإن اختلفت حدتها، ففي حالة الكبت قد يصل الأمر عند التكرار إلى الإصابة بارتفاع ضغط الدم، وأحيانا إلى الإصابة بالسرطان، أما في حالة الغضب الصريح وتكراره فإنه يمكن أن يؤدي إلى الإضرار بشرايين القلب، واحتمال الإصابة بأزمات قلبية قاتلة؛ لأن انفجار موجات الغضب قد يزيده اشتعالاً، ويصبح من الصعب التحكم في الانفعال مهما كان ضئيلاً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوصانا بعدم الغضب، ومن هنا تظهر الحكمة العلمية والعملية في تكرار الرسول صلى الله عليه وسلم توصيته بعدم الغضب.

^ وسائل للحفاظ على الهدوء والتصرف الشرعي السوي؟

        هناك مجموعة من النصائح والإرشادات النبوية يمكن أن نلخصها بما يأتي:

أ- الإحساس بأهمية كظم الغيظ:

إن كظم الغيظ، والتحكم في الغضب، والتصرف تبعاً لما يرضي الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هو فضيلة يتميز بها عباد الله الصالحون، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع به الدرجات؟" قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك". رواه الطبراني.

ب- التماس العذر وحسن الظن:

عندما نتعرض للإساءة نشعر بالضيق والغضب والإحباط ومن المفيد جداً حينذاك أن نلتمس عذراً لمن أغضبنا إن أمكن، ونحسن الظن به وإن أساء التصرف معنا، فإننا بحسن الظن نريح قلوبنا، وبذلك نسيطر على حالة الانفعال الشديد التي قد نتعرض لها عند الغضب.

جـ- محاولة تفهُّم مواقف الآخرين وتذكر محاسنهم:

تحت ضغط الظروف قد نميل أحياناً إلى التسرع في إصدار الأحكام، بينما التمهل يجنبنا التهور، ويساعدنا علي ضبط الأعصاب والتصرف بحكمة مع الآخرين، وعلينا ألا ننسى محاسنهم في لحظة غضب من أجل تصرف خاطئ قد يكون نتج عن إساءة في تقدير الأمور.

ء- اللين والمرح المحمود:

هو أسلوب فعال للتقليل من التوتر الانفعالي، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل بهذا الأسلوب مع أصحابه ومع الناس، فالكلمة الطيبة والابتسامة اللبقة لها تأثيرها الحسن في القلوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وتبسمك في وجه أخيك صدقة". شعب الإيمان.

هـ- الدعاء للمسيء لتصفية ما في الصدور:

ليس الدعاء للمسيء في ظهر الغيب بالأمر السهل، ولكن له نتيجة طيبة في تهدئة النفوس وتصفيتها، وتدريب النفس الأمارة بالسوء على مقابلة الإساءة بالإحسان.

و- العفو عن المسيء والإحسان إليه:

فالحسنة تدفع السيئة، والعمل الصالح يدفع العمل السيئ، وهذا عمل عظيم يحتاج إلى صبر واتدريب واحتمال لأنه من أخلاق الأنبياء والصالحين.

ز- الإعراض عن الجاهلين:

على المسلم أن يكون على مستوى رفيع من الأخلاق لا يتنازل عنه للرد على الجاهلين وإسكاتهم أو الانتقام منهم، ويأخذ بالوصية الرائعة التي أوصى بها الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بقوله:

يُخاطِبُني السَّـفيهُ بكـلِّ قُبْـحٍ     فأكــرهُ أن أكونَ له مُجيـباً

يزيـدُ سفاهـةً فأزيدُ حِلْـمـاً     كعُـودٍ زادَهُ الإحـراقُ طِيـباً

ح- التقليل من الكلام والأفعال حين الغضب:

إن لم يستطع الغاضب التحكم في مشاعر الغضب فعليه مراقبة تصرفاته، فهو مسؤول عما يصدر منه من تصرفات ومحاسب عليها في الدنيا والآخرة.. فعليه التقليل من الكلام ما أمكن، والسكوت هو الأمثل لئلا يتفوّه بكلام يندم عليه لا حقاً.

ط- النقد الذاتي وجهاد النفس:

الدنيا دار عمل ومشقة يقاسي فيها الإنسان الشدائد والهموم، ولِنتمكنَ من مواجهة هذه الشدائد والمحافظة على هدوئنا، علينا أن نقلل من شأن هموم الدنيا، وأن نصبر ونحتسب الأجر عند الله، ولْنَدْعُهُ دائماً ونقول: اللهم! لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا.

ي- النظر إلى الجانب التربوي الحسن:

عندما يسيء أحد الأفراد التصرف معنا فبإمكاننا أن نملك أنفسنا، بإمكاننا أن نغضب، أو أن نتجاهل أو نتفهم، قد يكون من غير اللائق أن نندفع بتصرفاتنا ومشاعرنا السلبية أو أن نلقي اللوم علي غيرنا، وقد يكون من الصعب أيضاً أن نكظم الغيظ كلية، لهذا كان علينا أن نعرف كيف يمكن أن نغير مشاعرنا السلبية.

ي- الاستعانة بالصبر والصلاة:

إن الصلاة والصبر تبسطان أعقد الأمور، بينما يعقد الغضب أبسطها، فبالاستعانة بالصبر والصلاة على مرضاة الله وطاعته، وبحبس النفس عن هواها نحل الصعوبات التي تعترضنا.

والغضب للنفس ولغير الله من الأخلاق التي ينبغي على المسلم أن يتنزه عنها، وقد يترتب عليه ما يندم عليه صاحبه إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما معاً. وقد قال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إنما يعرف الحلم ساعة الغضب". وكان يقول: "أول الغضب جنون، وآخره ندم". وقيل للشعبي: لأي شيء يكون سريع الغضب سريع الفيئة، ويكون بطيء الغضب بطيء الفيئة؟ قال: "لأن الغضب كالنار فأسرعها وقوداً أسرعها خموداً". "الآداب الشرعيَّة" (1/183). فإذا حدث للمسلم ما يغضبه فينبغي عليه أن يتذكر وصية النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تغضب". وكأنه يوجه الحديث له مباشرة، وليتذكر إيجابَ الله تعالى عليه الإحسانَ إلى والديه وتحريم الإيذاء لهما كأنه يسمعه منه مباشرة.

^ وصايا للاستعانة على الحلم وتسكين الغضب إذا هجم على الإنسان:

أ- ذكر الله تعالى:

فإن ذكر الله عز وجل يزيد القلب طمأنينة وصلة بالله سبحانه وتعالى، ويدعوه إلى الخوف منه، ويبعثه الخوف منه على الطاعة له, فيرجع إلى أدبه ويأخذ بندبه، فعند ذلك يزول الغضب، ويتذكر قوله سبحانه وتعالى:[]وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ[] سورة الكهف (24). قال عكرمة: يعني إذا غضبت، وقال الله تعالى:[]وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[] سورة فصلت (36). ومعنى قوله {ينزغنك} أي: يغضبنك, {فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} يعني: أنه سميع بجهل من جهل, عليم بما يذهب عنك الغضب. وقال بعض الحكماء: "من ذكر قدرة الله لم يستعمل قدرته في ظلم عباد الله". وقال عبد الله بن مسلم بن محارب لهارون الرشيد: "يا أمير المؤمنين! أسألك بالذي أنت بين يديه أذلّ مني بين يديك, وبالذي هو أقدرُ على عقابك منك على عقابي إلا عفوت عني". فعفا عنه لمـّا ذكَّره قدرة الله تعالى.

ب- تَذَكُّرُ ما يؤول إليه الغضب من الندم والحاجة إلى الاعتذار:

قال بعض الأدباء: "إياك وعزةَ الغضب؛ فإنها تفضي إلى ذُلِّ العذر". ففي حالة الغضب يتصرف الإنسان تصرفات خارجة عن إرادته، ويتلفّظ بكلام قد يُضطر إلى التراجع عنه والاعتذار منه.

جـ- ذكر ثواب العفو وجزاء الصفح:

فيقهر نفسه على الغضب رغبة في الجزاء والثواب, وحذراً من استحقاق الذم والعقاب. قال رجاء بن حيوة لعبد الملك بن مروان لما تمكن من بعض أعدائه وأسرهم: "إن الله قد أعطاك ما تحب من الظَّفَر، فأعطِ الله ما يحب من العفو". وأسمعَ رجلٌ عمرَ بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه كلاماً يكرهه، فقال عمر: "أردتَ أن يستفزني الشيطان لعزة السلطان، فأنالُ منك اليوم ما تناله مني غداً (يعني: يوم القيامة) انصرف رحمك الله".

ء- ذكر الإنسان انعطاف القلوب عليه وميل النفوس إليه:

فلا يضيّع ذلك بالغضب فيتغيّر الناس عنه. وليعلم أنه لن يزداد بالعفو إلا عزاً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلا عِزًّا" رواه مسلم (2588). وقال بعض البلغاء: "ليس من عادة الكرام سرعة الانتقام, ولا من شروط الكرم إزالة النعم".

^ خاتمة:

الغضب طبيعة وفطرة بشرية، فطرها الله سبحانه تعالى في بني آدم, وقد حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث الشريفة, فمنها: عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم دلني على عمل يدخلني الجنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تغضب ولك الجنة". (رواه الطبراني).

الإنسان خلق من ضعف، وهو في هذه الدنيا ممتحن، يغضب ويرضى، يحزن ويفرح، يمرض ويصحّ، ولذا وطّن العقلاء نفوسهم على الصبر والتحمّل، والأناة والتحلّم، أما غيرهم فيسخطون ويسبون، وقد يبلغ به الغضب إلى حد الجنون. ذلكم ما يفعله الغضب بأصحابه حينما يستسلمون له، ويعتادون عليه.

اللهم! اجعلنا ممن يتخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم. اللهم! اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئ الأعمال والأخلاق، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلمن والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

اقرأ أيضاً

الغضب .. أسبابه وعلاجه (1)  اضغط هنا

الغضب .. أسبابه وعلاجه (2)  اضغط هنا

الغضب .. أسبابه وعلاجه (3)  اضغط هنا

 

 

 

 

 

 

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 5025

 تاريخ النشر: 18/10/2010

2010-10-19

غسان

والله إنها لكلمات مفيدة جداً...... وأنا شخصياً استفدت منها كثيراً .....وأنصح من كان مبتلى بالغضب ولا يستطيع السيطرة على نفسه أن يستفيد من هذه الكلمات الذهبية( التي أتت علاجاً من كل النواحي دينياً وطبياً و نفسياً والتي تنم عن تجربة وخبرة طويلةمع الناس ) و أن يحفظها في حاسوبه أو يكتبها لكي يقرأها كلما سيطر عليه شيطان الغضب لأنها ستخفف عنه كثيراً ويتذكر أضرار الغضب و المؤمن بحاجة للذكرى( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) أشكر شيخنا المحبوب محمد خير و إني لفي شوق كبير لرؤياه ننتظر موضوع مهم آخر ......جزاك الله خيراً.

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1919

: - عدد زوار اليوم

7406139

: - عدد الزوار الكلي
[ 59 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan