::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> كلمة المشرف

 

 

أصول التربية والتعليم

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان (المشرف العام)  

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

^ مكانة العلم والعلماء في القرآن والسنة:

        ميّز الله سبحانه وتعالى العلم والعلماء على غيرهم من سائر بني البشر، فهناك فرق كبير بين المتعلم والجاهل. يقول تعالى:[]قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ[] سورة الزمر (9). ويقول أيضاً عز وجل:[]يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[] سورة المجادلة (11). أهل العلم لهم منزلة خاصة عند الله سبحانه وتعالى، لذلك وصفهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يُوَرّثوا ديناراً ولا درهماً، إنما وَرّثوا العلم الذي علّموا به أتباعهم وأصحابهم, وهؤلاء نقلوا هذه العلوم إلى من بعدهم إلى أن آلت إلينا، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافرٍ.

ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يعتز لأنه بُعث معلماً، فيقول عليه الصلاة والسلام: "إن الله عز وجل لم يبعثني معنفاً ولكن بعثني معلماً". مسند أحمد. يرفض عليه الصلاة والسلام منهج الشدة والقسوة والعنف، ويدْعُو إلى منهج التعليم، وهو منهجٌ له علاقةٌ بالسلوك وتزكية النفس أولاً.

^ التزكية والتعليم .. منهجان تتجسد من خلالهما مكانة المعلمين:

لما كان العلم منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد أشار القرآن الكريم إلى مكانة المعلمين من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإلى دورهم في نقل هذه الرسالة وتعليمها إلى الناس أجمعين من خلال منهجين: منهجٌ قائمٌ على التعليم، ومنهجٌ آخرٌ قائمٌ على التزكية. يقول ربنا سبحانه وتعالى:[]رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ[] سورة البقرة (129). نلاحظ في هذه الآية أن الله تعالى قدّم التعليم على التزكية. في آية أخرى قدّم الله سبحانه وتعالى التزكية على التعليم في معرض امتنانه على هذه الأمة بأن أرسل لهم سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: []لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ[] سورة آل عمران (164). التزكية هي: منهجُ سلوكٍ نفسي وخُلقي على كل إنسان أن يتحلى به, سواء كان معلماً أو متعلماً. ومهمة المُسلّكين، والمربين، والأنبياء، والمعلمين، والمدرّسين الجمع بين الأسلوبين معاً، أي أن يكونوا معلمين ومزكّين في الوقت نفسه؛ بأن يحرصوا على نقل المعلومة إلى طلابهم، والارتقاء بهم من مرحلة الجهل إلى مرحلة العلم، ثم الانتقال بسلوك الطلاب إلى مستوىً أرقى مما كانوا عليه فيما مضى, وهذا يُشعِر كل المربين والمعلمين بالمسؤولية العظمى والأمانة الكبرى التي حمّلهم إياها ربنا سبحانه وتعالى.

^ التعليم أمانة عظمى:

حمّل اللهُ تعالى الإنسانَ الأمانة, وعندما يُذكَر مصطلح الأمانة يتخيل كثير من الناس أنه ينحصر في مبلغٍ من المال يأخذه الإنسان ويكون وديعةً عنده، أو قرض أخذهُ من زميل له أو صديق أو أخ فأصبح ديناً في حقه فهو أمانة. لكن هذا المفهوم مفهوم قاصر وخاطئ, الأمانة هي: كل أمرٍ يُطالَب به الإنسان أمام الله وأمام العباد، فلله تعالى علينا أمانات كثيرة وأولها الفرائض: الصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصوم أمانة، والحج أمانة. الواجبات التي فرضها الله علينا سبحانه وتعالى أمانة: كصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجوار، وإكرام الضيف أمانة. هناك أمانات أخرى تتعلق بالسلوكيات التي يتعامل الناس بها فيما بينهم: كالإخلاص في المودة والصحبة والعلاقة. والتعليم أمانة عظمى، وهو من أعظم أنواع الأمانات، فالمعلم مؤتمن على تقديم العلم النافع لطلابه وأبنائه وتلامذته. نحن كآباء نرى أو نسمع من أبنائنا في المدارس إهمالَ كثيرٍ من المعلمين وتقصيرهم وعدم إعطائهم حق هذه المهنة. أين هو المعلم الذي يُهمل مادته وتدريسه من تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه؟! أين هو من تعليمه للأعراب الجفاة الغلاظ الذين كانوا يأتون إليه من أطراف البادية، فيقول أحدهم أيكم محمد؟؟ بكل غلظة وكل فظاظة، لا يحترم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتأدب بين يديه، ومع ذلك يقبل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له: علمني دين الله الذي أُنزل عليك, فيجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه وبين يديه، ويدنيه منه، ويقربه إليه، ثم يعلمه دين الله سبحانه وتعالى دون ملل أو تكبر أو ضجر منه.

أيها الإخوة القراء! مهنة التعليم والتدريس أمانة عظمى، ورحم الله من قال:

قدْ رَشَّحُوكَ لأمرٍ لو فَطِنْتَ لـهُ       فارْبأْ بنفْسِكَ أنْ ترعى معَ الهَمَلِ

أي أنك قد ارتقيت منزلةً ذات شأن عظيم عندما أصبحت معلماً ومربياً, وغدوت في القمة، فحاول ألا تكون من المقصرين أو المهملين لهذه المهمة العظيمة التي هي شرف كبير، إذ به نلت درجة العلم، وبلغت مصاف، العلماء وأصبحت في منزلة كبيرة.

يُنسب إلى سيدنا علي رضي الله تعالى عنه وكرم الله وجهه قوله في بيان فضيلة العلم والتعليم وأهل العلم والمعلمين:

ما الفضلُ إلا لأهلِ العلْمِ إنّهُمُ       على الهدى لِمن استهدى أَدِلاّءُ

وقَدْرُ كلِّ امرئٍ ما كان يُحْسِنُهُ       والجاهلون لأهلِ العـلمِ أعداءُ

فَقُمْ بِعِلْمٍ ولا تَطْلُـبْ به بَدَلاً        فالناسُ مَوتى وأهلُ العلمِ أحياءُ

هذه خاتمة رائعة، فيها حثٌّ من سيدنا علي رضي الله عنه - إن صحت نسبة هذه الأبيات إليه - على ضرورة تعلم الإنسان وارتقائه بنفسه وحرصه على أن يكون قدوة لطلابه إن كان مدرساً، وشيء طبيعي أن يكون المعلم قدوة لطلابه؛ لأنه حقيقةً في مقام الأب الروحي للطلاب, فإذا كان الطلاب يرون آباءهم في البيت ساعات محدودة، فإنهم يرون أساتذتهم في المدرسة ساعات أطول مما يرون آباءهم, سواء كان هذا المتعلّم في المرحلة الابتدائية أو الإعدادية أو الثانوية، أو حتى في الجامعية, يتكون من خلال أفكار أساتذته ومعلميه ومربيه ومشايخه, ويتأثر بهم, ويتقلب على الطريقة التي ينقله إليها أساتذته ومعلموه.

^ أساليب ومناهج نبويّة ينبغي أن يعتمدها المدرس في علاقته مع طلابه:

التعليم مسؤولية عظيمة، وعلى كل المدرسين والمربين والمعلمين أن يدركوا قيمة هذه المسؤولية وقدرها، وأن يعرفوا أنهم إنما تسلموا مهمة الأنبياء, فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يعلّمون الناس ويرشدونهم، وينقلونهم من حالة الجهل إلى العلم، من الضلال إلى الهدى، من الظلام إلى النور، وكان لهم أساليب متعددة في نقل هذه العلوم والأفكار المهمة، ولقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو قدوتنا وأسوتنا - في كل أموره كان له مناهج ووسائل يتعاون فيها مع أصحابه، وعلينا أن نقتبس منها في التعامل مع طلابنا وأبنائنا ومع الناس بشكل عام، لكننا نوجه هذا الخطاب هنا إلى من اشتغل بمهمة التعليم والتدريس؛ لكي يُعنى عناية متميزة في علاقته التعليمية والتربوية مع طلابه وتلاميذه:

أ- التأثير في نفوس الطلاب وقلوبهم من خلال الموعظة الهادفة:

حتى لو كان المدرس يدرّس علم الرياضيات، أو الفيزياء، أو العلوم الطبيعية، أو اللغة الأجنبية، أو الآداب والنحو والصرف والبلاغة، أو أي فن من الفنون، فعلى المدرس أن يغتنم الفرصة المناسبة لكي يوجه طلابه نحو الأخلاق السامية والسلوكيات المثالية، وخاصة ما يتعلق بأمور دينهم وثقافتهم الدينية، عليهم أن يحرصوا على الجمع بين علوم الدين والدنيا معاً؛ وذلك من خلال الموعظة التي تتخلل الدروس بين الحين والآخر، يقول سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهية السآمة علينا". بمعنى أنه لم يكن يُثقل عليهم ولا يُبالغ في القول، بل إنه إذا رأى في نفوسهم فتوراً يذكّرهم، وإذا رأى في نفوسهم حاجةً للتعليم علّمهم، وإذا رأى ضرورةً للإرشاد أرشدهم، وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يُطيل الكلام في الموعظة ولا يُكثر منها، ولا يُشدد على أصحابه فيها، إنما كان يختار الوقت المناسب والزمن المناسب لكي ينقل لأصحابه فكرةً مهمةً يوضح فيها مسألةً ترْسَخُ في عقولهم، وتكون منهجَ عملٍ لهم في حياتهم.

فما أحوج المدرسين أن يغتنموا الفرص المناسبة - وخاصة عند شعورهم بملل الطلاب - لكي يقدموا لهم موعظة سلوكية خلقية تتعلق بإنسانيتهم، ومعاملاتهم، وصلتهم مع آبائهم وأمهاتهم، وعلاقتهم مع إخوتهم من المودة والاحترام، إلى الصدق والأمانة، إلى الفطانة والذكاء، إلى الحرص على العبادات والتزام الأخلاق الفاضلة، وهذا ما يملكه كل المربين؛ لأن المربي والمعلم والمدرس قدوة في نظر طلابه وتلامذته، فربما يتأثر الطالب من أستاذه أكثر مما يتأثر من والده وأمه.

ب- استخدام لغة الحوار والإقناع:

وهو أمر مهم جداً، فعندما نجد مشكلة من طلابنا، أو نفوراً أو ابتعاداً عن العلم، أو التضييع للوقت وغير ذلك... على المدرس والمعلم أن يحرص على محاورة طالبه وتلميذه، إلى أن يصل معه بلغة الإقناع العلمي إلى أنّ هذا الأمر فيه خلل عليه أن يجتنبه، أو أن فيه خطراً كبيراً على حياته ومستقبله وعليه أن يتجاوزه، وخاصة مسألة الصحبة الفاسدة؛ فكثير من طلاب المدارس مشكلة الفشل الدراسي عندهم تكمن في الصحبة الفاسدة التي تؤدي بالطالب إلى الانحراف السلوكي والتّخلّق بأخلاق غريبة عن بيئته وعن صلته مع أهله، فمثلاً ربما ينشأ طالبٌ في بيتٍ ليس فيه مُدخن، فإذا به يأتي إلى البيت مدخناً من خلال علاقته مع المدخنين، ومن خلال صحبته لبعض الشباب الفاسدين. فإذا رأى المدرس مثل هذه الظواهر التي هي خطر على أبنائنا من الناحية الصحية والنفسية والفكرية والعقلية عليه أن يحاور هذا الطالب وأن يقنعه؛ لأنه بمقام القدوة، ويستطيع أن يؤثر فيه تأثيراً كبيراً أكثر مما يؤثر فيه أبوه أو أمه. لنا في ذلك قدوة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاءه شاب ودخل إلى مجلسه عليه الصلاة والسلام وقال: "يا رسول الله! ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه! مه! فقال: ادن. فدنا منه قريباً. قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك! قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال أتحبه لابنتك؟ قال لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك! قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. أفتحبه لأختك؟ قال لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك! قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك! قال أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك! قال" ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه فقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء". مسند أحمد. خرج الشاب من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: والله ما شيء أبغض إلى نفسي من الفاحشة، بسر دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن حواره له وتفهمه لمشكلته.

جـ- أسلوب التشجيع والثناء على العمل الجيد:

وهو أسلوب ناجح، ومن الأساسيات التي ينبغي أن يتعامل بها المدرسون مع طلابهم، كالثناء على طالب مجتهد جداً، أو طالب لم يغب طوال العام الدراسي مرة، أو طالب يعتني بهندامه ونظافته وشكله، أو طالب يحفظ من المرة الأولى، هذا يحتاج إلى تشجيع وثناء لكي يقوى غيره، ولكي يستمد هذا المجتهد القوة من هذا الثناء.

وقد ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام استخدم هذا الأسلوب مرة عندما قال سيدنا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة مشجعاً له ومثنياً على سؤاله: "لقد ظننتُ يا أبا هريرة ألا يسألَني عن هذا الحديث أحد أول منك لِما رأيتُ من حرصك على الحديث". صحيح البخاري. وذلك لأن سيدنا أبا هريرة رضي الله عنه كان أكثر الصحابة حفظاً وروايةً للحديث عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يثني عليه وأن يشجعه لأنه كان أكثر الناس سؤالاً، وخاصة للأمور المهمة التي يحب النبي صلى الله عليه وسلم بيانها، فكان لهذا التشجيع أثرٌ في نفس أبي هريرة، وكان دافعاً له للمزيد من الحرص والاجتهاد والعناية بحديث النبي صلى الله عليه وسلم.

ء- أسلوب التوجيه غير المباشر:

وهو أسلوب كان يتعامل به النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه ومع الناس عندما يصعد منبراً، أو يلقي درساً أو خطبة، أو يوجه موعظة، وكان عليه الصلاة والسلام يعلم أن بين الناس فلاناً قد وقع في مخالفة شرعية ما, فلم يكن عليه الصلاة والسلام ليقول: يا فلان! لم فعلت كذا وكذا؟ أو يا فلان! لا يجوز لك أن تفعل كذا. وإنما كان يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟ دون أن يخصص إنساناً بعينه، ودون أن يُشير إلى فلان بذاته، إنما كان يعمم المسألة بحيث يتوقع كل واحد من المستمعين أنه معنيّ بخطاب النبي عليه الصلاة والسلام، فيسعى إلى إصلاح ذاته وتطوير نفسه والخروج من هذه المشكلة التي أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام.

فعندما يلجأ المدرس إلى أسلوب التوجيه غير المباشر فإنه بذلك يكسب قلوب الطلاب جميعاً، ويستطيع أن يوصل صوتَه إلى المخطئ والمقصّر، فيتجاوز خطأه دون أن يُفتضح بين إخوانه وزملائه.

هـ- أسلوب توجيه عقوبة من جنس الخطأ المرتكَب:

وذلك عندما يشطط الطالب، وعندما لا تجدي معه الموعظة ولا الحوار ولا الإقناع، وهذه العقوبة لا نعني بها الضرب أو الشتم أو التوبيخ، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضربَ أصحابه أو أتباعه، ولم يكن ليوبخهم إذا اخطؤوا خطأً أو ارتكبوا إثماً، بل إن الذي كان يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعترف بين يديه أنه ارتكب ذنباً أو إثماً، كان يوجهه النبي عليه الصلاة والسلام كيف يستغفر الله ويتوب من ذنبه ويُقبل عليه، فيفتح له الرسول عليه الصلاة والسلام باب الطاعة، ويغلق عليه باب المعصية، لكن الزجر والعقوبة هنا يكون من نوع الخطأ الذي وقع فيه، بمعنى أن نوضح لأبنائنا الطلاب والتلاميذ أنّ هذا العمل الذي قاموا فيه منافٍ للصواب، وأن الاستمرار عليه يؤدي إلى الخطر، وهو سبيلٌ من سبلِ التخلف والنهايات السيئة إذا استمروا عليه. جاء في الحديث عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله! لا أكاد أدرك الصلاة مما يطوّل بنا فلان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه شديد الغضب يومئذ قال: "أيها الناس! إنكم منفّرون، فمن صلّى بالناس فليخفّفْ؛ فإنّ فيهُمُ المريضَ والضعيفَ وذا الحاجة" صحيح البخاري. فالعقوبة والزجر الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتبر هذا الأمر تنفيراً من الدين, الإطالة في الصلاة للأئمة نوع من أنواع التنفير من الدين؛ لأن من بين المؤتمين كبار سن وعَجَزة، وبينهم مرضى وضعاف لا يقوون على القيام، لذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام الأئمة الذين يطيلون الصلاة ألا يكونوا من المنفرين، وهذا نوع من الزجر يتناسب مع الخطأ الذي ارتكبوه.

فلو أن المدرس عندما يخطئ الطالب الذي بين يديه فيقصّر في حفظ الدرس أو في كتابة الوظيفة، فتكون العقوبة أن يسمّع الدرس كل مرة، أو أن يكتب الوظيفة ثلاث مرات أو خمس مرات، هذه العقوبة من نوع الخطأ نفسه، وتنعكس في النهاية تصويباً لسلوك الطالب ونوعاً من الإيجابية في تلقّيه للعلم وحبه للعلم، ويُقبل عليه بشكل واضح.

^ واجب المعلم في استيعاب طلابه والصبر عليهم:

أيها الإخوة القراء! هذا هو منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم والتدريس، هكذا كان يتألف أصحابه، ويجمع قلوبهم، وينوّر عقولهم وأفكارهم دون أن يشدّد عليهم أو أن يقسو أو أن يسيء لأحد منهم، بل كان عليه الصلاة والسلام يستوعبهم جميعاً، حتى أن معاوية بن الحكم رضي الله تعالى عنه يقول: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما قهرني ولا ضربني ولا شتمني". لاحظوا الأشياء التي انتبه إليها سيدنا معاوية, ((ما قهرني ولا ضربني ولا شتمني)), قهر المدرس لتلميذه وإسكاته - أو كما نقول بالمصطلح العامي تخجيله - هذه مسألة ربما تُشكّل له عقدة طوال حياته، وعلى العكس من ذلك فإن  تشجيعه والثناء عليه يكون سبباً في انطلاق الطالب الكسول لكي يصبح مجتهداً، وفي تحوّل الطالب المتواضع لكي يكون طالباًَ مجداً.

كذلك عندما يضرب المدرس تلميذه ربما يحطم معنوياته، وربما يسيء إلى كرامته، فيحقد الطالب على أستاذه نتيجة ضربه إياه،ن ونتيجة الإساءة إليه في المعاملة، والأخطر من ذلك الشتم والسب؛ فعندما يتكلم بعض المدرسين بمصطلحات من الشتائم والسباب والكلام القبيح الذي لا يليق بمستوى التعليم ولا التدريس، ولا بمكانة هذه المهمة الجليلة القدر العظيمة الشأن، فإنه بذلك ينزل عن مستوى هذه المهمة، وينزل بمقدارها إلى الحضيض؛ لأنه لم يُعْطِ نفسه مكانتها التي ينبغي أن يكون عليها وبها دائماً، وهي مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المعلمين وسيد المربين.

^ صفات المدرس الناجح:

أيها الإخوة القراء! لكي يكون المعلم ناجحاً ومتميزاً في تدريسه وعطائه وتعليمه لا بد أن تتوافر فيه مجموعة من الصفات والخصال، فإن لم تتوافر فيه عليه أن يسعى إلى اكتمالها في شخصيته، وعليه أن يسعى إلى تطوير مهاراته وأفكاره وأساليبه التعليمية حتى يؤدي هذه الأمانة خير أداء.. وهذه الخصال هي:

أ- العلم الصحيح:

العلم سلاحٌ قويٌ وزادٌ متينٌ لا بد أن يتقنه كل معلم، وخاصة المادة التي يدرسها أو الاختصاص الذي تخصص فيه، إضافة إلى إحاطته بسائر العلوم على شكل الثقافة العامة، أي أن يأخذ من كل علم نقاطاً، وأن يكون عنده علمٌ عن كل شيء ولو شيئاً يسيراً منه، حتى إذا سأل الطالب سؤالاً ما أو استفسر استفساراً ما يستطيع المعلم أن يجيبه، وأن يبين لتلاميذه الأحكام والمسائل.

ب- التمكّن من المادة:

لأن تمكن المدرس من مادته يقلل أخطاءه، ويزيد من ثقة طلابه به، ويكثر نفعه لطلابه، وخاصة إذا كان عارفاً بأمور دينه، متمسكاً بها، محافظاً على تأدية الشعائر في أوقاتها، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر.

ورد عن الصحابي الجليل عتبة بن أبي سفيان أنه قال لمعلم ولده: "ليكن أولُ إصلاحك لولدي إصلاحَ نفسك؛ فإنّ عيونهم معقودة بعينك، فالحَسَنُ عندهم ما صنعتَ، والقبيحُ عندهم ما تركتَ". فالمدرس قدوة لطلابه، فإن رأوهصادقاً صدقوا، وإن رأوا منه كذباً كذبوا.

جـ حبّ المهنة:

أن يكون المدرس مهتماً بمهنته وَلُوعاً بها، يقوم بعمله خيرَ قيام، يؤدي هذه المهمة بشغف ونشاط وشوق، فإذا ما رآه الطلاب مستبشراً فرحاً انعكس هذا الأمر على نفوسهم، واستبشروا خيراً من أستاذهم.

ء- الفصاحة وحسن المنطق والكلام:

ووضوح الصوت ومخارج الحروف، وقوة البيان، وجمال التعبير، ومنطقية الكلام الذي يتحدث به إلى طلابه، مع الذكاء، والفطنة، وسعة الأفق، وبعد النظر، واليقظة التامة؛ ليتمكن المدرس من معالجة التدريس بحكمة وروية.

هـ - حسن الهندام:

 المدرس الناجح يُعنَى بأناقته، ونظافته، وطيب رائحته، وحسن هندامه وجاذبية مظهره، وهذا من باب تعظيم العلم والعلماء، ومن باب تعظيم شعائر الله سبحانه وتعالى. []ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ[] سورة الحج (32).

كان الإمام مالك رحمه الله تعالى إذا أراد أن يروي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قام إلى الموضأ، فتوضأ، ثم لبس أجمل ثيابه، ثم تطيب وتكحل وجلس على ركبتيه متجهاً نحو القبلة، ثم يحدّث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى من أحسن الناس ثوباً وهنداماً؛ لأنه يريد بذلك أن يكون قدوة لطلابه وتلامذته ومريديه.

و- التواضع:

فالمدرس الناجح متواضع لكن من غير ضعفٍ، عطوف على طلابه لكن في حزمٍ، متحرر من عقدة التعالي وعقدة الدونية، لا يشعر أنه أدنى من طلابه من الناحية المادية أو النفسية، ولا يتعالى عليهم بحيث يُشعرهم أنه فوقهم بكثير. يعرف متى يكون مرحاً ومتى يكون جاداً، متى يقدم لهم الفكاهة ومتى يقدم لهم المعلومة بصوت جاد وبشكل جدي.

ز- حُسْنُ السلوك:

على المدرس أن يُعنى بحسن التعامل مع طلابه، وأن يكون سلوكه لائقاً، وأن ينهى عن الأخلاق السيئة، ويبتعد عن الكلام القبيح والصفات الفظيعة التي لا يَصلح أن يتصف بها المدرسون ولا المعلمون ولا المربون.

ح- الإخلاص في التعليم:

على المعلم أن يكون مخلصاً في تعليمه ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، فالإخلاص سرّ من أسرار الله سبحانه وتعالى، ولا بد أن يحرص عليه كل عالم وكل متعلم وكل طالب علم.

ط- العمل بالعلم:

على المعلم أن يكون عاملاً بعلمه، فلا يُكذّب قوله فعله، والمعلم عندما يفعل خلاف ما يقول فإنه يفقد بذلك مكانته وقدوته بين طلابه. لذلك قيل قديماً: "زلةُ العالِم زلةُ العالَم". فخطيئة المربي والمعلم والمدرس تكون كارثةً على طلابه، ووزر العالِم في معاصيه أكثر من وزر الجاهل؛ لأن الناس تتّبع العالِم والمدرس. الطالب عندما يرى أستاذه يفعل المنكر أو يقع في الخطأ فلا يبالي إن فعل مثله؛ لأنه يرى قدوته كذلك، والله سبحانه وتعالى يقول:[]...لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)[] سورة الصف. ويقول أيضاً سبحانه:[]أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ...[] سورة البقرة (44).

إذاً.. علينا نحن - معاشرَ المدرسين والمعلمين والمربين - أن نحرص على أن نكون قدوة، وعلى أن يكون سلوكنا وأفعالنا وأقوالنا قدوة لطلابنا. ورحم الله من قال:

يـا أيهـا الرَّجـلُ المعلـمُ غيـرَهُ!   هـلاّ لنفسِـكَ كـان ذا  التعليـمُ

تصفُ الدواءَ لذي السِّقامِ وذي الضَّنا   كَيمـا تَصِـحَّ بـه وأنـتَ سقيـمُ

ابـدأْ بنفسـكَ  فَانهَـهَا عن غيِّـها   فإذا انتهـتْ عنـهُ فأنـتَ حكيـمُ

^ واجبنا في الحثّ على العلم:

نحن مأمورون أن نحثّ الناس على العلم وخاصة طلابنا وتلاميذنا, أن نشجعهم ونأخذ بأيديهم ونرتقي بسلوكهم، ولعل هذا نجده واضحاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سيأتيكم أقوام يطلبون العلم، فإذا رأيتموهم فقولوا لهم: مرحباً مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم". سنن الترمذي. في رواية أخرى لهذا الحديث: "إذا جاءكم طالب العلم فقولوا له يا مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم".

علينا أن نحث أبنائنا على العلم، وأن نرحب بهم ونهتم بدراستهم ونشجعهم ونثني عليهم؛ حتى نضمن لهم مستقبلاً جيداً وسلوكاً حسناً، وحتى نرتقي بمستواهم إلى درجة أعلى مما هم فيه.

^ دعاء:

اللهم! علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علماً من فضلك وبركتك وإحسانك. إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 4543

 تاريخ النشر: 04/10/2010

2010-10-06

غسان

لا فض فوك شيخنا المحبوب أبو منار .........كلام يجب أن يكتب بماء الذهب .......

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1204

: - عدد زوار اليوم

7397555

: - عدد الزوار الكلي
[ 56 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan